وأما الإفرنج الذين قصدوا الميمنة فسلموا وأخذوا بعض الجنويات والستائر التي كانت للمسلمين، وكان السبب في ذلك أن الميمنة كان فيها المقدم هو الأمير الحلبي الكبير، ولما بلغه خبر الكبسة ركب بمن معه من الأمراء وأوصاهم أن لا يدعوا شيئا في الخيم، وأراد بذلك أمرا، وأراد الله غيره، وحسب في نفسه أن الإفرنج إذا هجمت على الخيام ورجعت يكون هو والعسكر الذي معه قد سبقوا إلى المبنى التي طلعوا منها، فيكون قد ملك الطريق عليهم ويأخذهم قبضا باليد، ولا يدع أحدا يتمكن من الدخول إلى عكا، فلما هجمت الإفرنج على الخيام ورأوها خالية من كل شيء أدركوا ما أضمره الحلبي في نفسه، فعرجوا عن تلك الطريق إلى غيرها، فوجدوا في طريقهم جنويات وطوارق للحلبي فأخذوا، وبقى الحلبي ومن معه واقفين ينتظرون عود الفرنج فما رأوا أحدا حتى أشرق الصبح ووقع الصياح من الإفرنج من عكا، وعلقوا تلك الطوارق والجنويات على الأسوار، ولما رأت المسلمون ذلك اغتموا، وبعد ساعة سير الأمير بكناش إلى السلطان الأسرى الذين أسرهم من الإفرنج والخيل التي أخذوها منهم، فزال عن الناس الغم، ثم أصبح السلطان فطلب الأمراء وعنفهم على الإطالة بالحصار، فاعتمدوا بأجمعهم على المجانيق، وصارت الأمراء تركب إليها وتقف على أمرها إلى أن فعلت فعلا عظيما، وهدمت شراريف الأسوار، وتقلقلت الآجر لتقع والبدنات، فوهيت عند ذلك أهل الكفر وتحققوا أن أمرهم إلى التلاشي والزوال.

ونظم أبو تميم في المنجنيق:

للمنجنيق على الحصون وقائع ... فيها عجائبٌ للذي يتفهم

يومى إليهم بالركوع مخادعاً ... فتخر ساجدة إليه ونسلم

قال الراوي: ثم اتفق رأي الإفرنج على أن يسيروا إلى السلطان فيسألونه أن يرحل عنهم، وعليهم كل سنة مالاً يحملونه إليه مع هدايا وتحف كما كانت في الأول، فلما جاء رسلهم إلى السلطان جمع الأمراء فشاورهم فيه. فقال جميعهم عن لسان واحد: إن هذا حصن كبير عندهم، ولم يبق في بلاد الساحل من أهل الكفر غير أهله، وكان عزم الشهيد والد الأشرف على فتحه، والسلطان قد عزم في أول دولته على فتحه على ما كان عليه عزم الشهيد، وأنه قد أصيب من المسلمين جماعة، وقتلت جماعة، وما بقى للصلح فائدة، فإنما قد أشرفنا على فتحه. وهم في ذلك، وإذا بصياح عظيم من السوقة والحرافيش والغلمان والجمالين: يا مولانا السلطان بتربة الشهيد لا نصطلح مع هؤلاء الملاعين، ثم قال السلطان للرسل: لا صلح عندنا إلا أن تسلموا الحصن بالأمان، فذهبت الرسل، وكان يوم الخميس.

ففي يوم الجمعة أمر السلطان بالزحف، فزحفوا وكشفوا الإفرنج عن الأسوار بسهام، ثم دخلوا في المدينة فوجدوا في المدينة فوجدوا من الأموال والذخائر والأواني البلور المرصعة بالذهب واللؤلؤ ما لم يقدر عليه، وكذا من الأواني الفضة والذهب والدراهم البندقية شيئا كثيرا لا يعد ولا يحصى، ووجدوا أيضا من أصناف المتجر الذي يحضر إليها ويسافر به إلى الشام ومضر شيئا كثيرا، ومن الذهب السبائك والفضة الحجر، فشرعت الكسابة من الغلمان والسوقة والحرافيش ينهبون، وقتلت من المسلمين جماعة على الكسب، وكانوا إذا وجدوا آنية من فضة أو ذهب أو بلور كسروها وأطفأوا صنعتها، وأخذوا من النساء والأولاد شيئا كثيرا، واستغنت جماعة السوقة مما كانوا يشترون من الكسابة من الغلمان والجمالين والحرافيش وغيرهم من الأجناد وأتباعهم.

قال صاحب نزهة الناظر: أخبرني جماعة منهم: أن منهم من كان كسبه بلغ إلى مقدار ألفي دينار وما دونها من الذي ينهبه ويبيعه للسوقة، وأن شخصا يعرف بسراج الدين ظبيان كان كسبه في عكا نحو ألف وسبعمائة دينار واثنين وعشرين ألف درهم، وحضر إلى المدينة وصحبته ثلاثة أقطار من الجمال تحمل تجارة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015