قال بيبرس: فلما وصلا إلى قريب القلعة ركب السلطان والعساكر والأمراء في موكب حفل وتلقاهما، وأفبل عليهما، وأطلعهما القلعة، ولم يعرض إليهما بسوء، بل وفى لهما بأمانة، وغمرهما بإحسانه، وأعطى كلأمنهما إمرة بمائة فارس، واستمرا بركبان معه في الموكب، ويلعبا مع ولديه في الميدان، ونزلهما منزله، وشرط عليهما أن يسلكا ما يجب من الأدب، ويتجنبا مناهج الريب، فلبثا في ذلك برهة في أرغد عشيةٍ وأهنى معيشة، ثم بلغه عنهما أمور أنكرها، فقبض عليهما واعتقلا، وبقيا في الإعتقال إلى أيام ولده الملك الأشرف، فسيرهما إلى القسطنطينية، فكان منهما ما نذكره إن شاء الله.
خرج السلطان إلى الشام، فنزل غزة، ثم توجه إلى الكرك جريدة متصيداً، وترك العساكر مقيمة على غزة، فوصل إليها في شهر شعبان من هذه السنة، ونزل على ظاهرها، وطلع إلى قلعتها، ونظر في أحوالها، وحفر البركة التى في باب النصر، وكانت قد أهملت وارتدمت، ورتب أحوال العربان ومن بها من الرجال، وجدّد لأمراء العرب مناشير إقطاعاتهم، وأجرى لهم عادات صلاتهم. ثم رسم للأمير بيبرس الدوادار صاحب التاريخ بالإقامة في الكرك نائبا، فأقام، وخرج الأمير عز الدين أبيك الموصلى، ونقله السلطان منها إلى نيابة السلطنة وتقدمة العسكر بغزّة، فأقام بها مدة يسيرة، ثم نقله إلى قلعة صفد نائبا بالقلعة خاصّةً، عوضا عن الأمير سيف الدين قجقار المنصورى، فإنه كان قد مرض وقصد التوجه إلى الديار المصريّة ليتداوى، فتوجّه، فكانت منيته في تلك المرضة، فتوفي بالقاهرة.
ولما قرر السلطان أحوال الكرك على ما يحب تقريره رحل عنها وتوجه إلى غابة أرسوف، يحكم أن الوخم أصاب العسكر بغزة، فأقام نازلا على الغابة إلى أن هجم الشتاء ووقع الثلج، وأمن حركة العدوّ من الرواح والغدوّ، وعاد إلى الديار المصرية.
قال بيبرس في تاريخه: وأخذ الشعراء يمتدحون، فمما قيل في ذلك أبيات نظمها القاضى شمس الدين الأربلىّ منها:
يا ذا الذي السرحان في أيامه ... والشاء لا هذا على ذا يعتدى
وافيتنا والناس بين محير ... في نفسه ومخوفٍ ومهدّد
ألقيت فينا هيبةً حتى لقد ... خاف التقى فكيف خوف المفسد
فأناب من مازال منهم يعتدى ... حتى ظنناك الرفاعى أو عدى
من كان يدلج في الحرام ويغتدى ... أضحى بخوفك قيما في المسجد
وأقمت أمر الله بين عباده ... ترجو ثواب الناسك المتعبد
يا جامعاً بين النوال وعدله ... وصلاته وصلاته للتحدى
ما زلت أخشى الحادثات وصرفها ... حتى بحبل ولائه علقت يدى
ما ضل من بضياء عدلك يهتدى ... في أمره وبنور رأيك يقتدى
قال بيبرس: وأنعم السلطان علي بثمانين فارساً وإقطاع الأمير علم الدين سنجر الدوادار الصالحىّ على عادته في الدربستية، وأرسل إلى المنشور الشريف على البريد، وأنالنى من إحسانه فوق المزيد.
ونسخة المنشور الشريف: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ذي الفضل الجمّ، والامتنان الذي عمّ، والجميل الذي تمّ، مده حمد من قدّم من شكر منته الأهمّ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ينجلى بها عن قلب الموحد الغمّ، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جمع الله بنبوته شمل الإيمان ولمّ، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله عترته وصحابته صلاة نأتمر بها ونأتم.
وبعد: فإن خير من سمت به حدوده، واتسمت لشجاعته سعوده، وخفقت برياح النصر بنوده، وعمرت بالخير معاهده ورعيت عهوده، من زكت مغارسه، وصفت بالإحسان ملابسه، وكثرت عند الإعتداد ذخائره من الخدمة ونفائسه وقصر عن طول ملوله مقايسه.