وفي جمادى الأولى: باشرقضاء الحنفيّة بدمشق الشيخ صدر الدين سليمان المذكور، عوضا عن القاضي مجد الدين بن العديم بحكم وفاته، ثم توفى صدر الدين المذكور في رمضان من هذه السنة، وتولى عوضه القاضى حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن القاضي تاج الدين أحمد بن القاضي جلال الدين الحسن بن أبي شروان الفرازيني الذي كان قاضيا بملطية قبل هذا.
وفي العشر الأواخر من ذي القعدة: فتحت المدرسة النجيبية، وحضر تدريسها القاضي شمس الدين بن خلكان بنفسه، ثم نزل عنها لولده كمال الدين موسى، وفتحت الخانقاة النجيبية، وكانتا وأوقافهما تحت الحوطة إلى الآز.
وفي أواخر هذه السنة: عزم السلطان الملك السعيد على السفر إلى الشام ليتفرّج في الممالك ويتنزه في المروج والمسالك، فتجهز وسار بالعساكر، فوصل إلى دمشق ودخلها يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة من هذه السنة، وطلع قلعتها، ونزل بقصر والده الظاهر، وقد زينت له البلد، وعملت له ظاهرة، وخرج أهل البلد لتلقيه، وفرحوا به فرحاً شديداً لمحبتهم والده، وصلى عيد النحر بالميدان الأخضر، وعمل العيد بالقلعة، واستوزر بدمشق الصاحب فتح الدين عبد الله بن القيسراني، وبالديار المصرية بعد موت بهاء بن الحنا الصاحب برهان الدين الخضر بن الحسن السنجارى.
وفي يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي الحجة منها: جلس السلطان الملك السعيد بدار العدل داخل باب النصر، وأسقط ما كان جدّده والده على بساتين أهل دمشق، فتضاعفت الأدعية له وأحبوه لذلك حباً شديدا، فإنه كان قد أجحف بكثير من أرباب الأملاك، وودّ كثير منهم أن لو تخلص من ملكه بسهب ما عليه.
وقال بيبرس في تاريخه: وكان السلطان أهتم ببناء تربة على والده، فاشترى دارا تعرف بالعتيقي وبناها تربةً ونقل والده إليها. فقال في ذلك القاضي محي الدين بن عبد الظاهر أبياتا من جملتها:
صاح: هذا ضريحة بين جفنى ... فزورا من كل فج عميق
وكيف لا وهو من عقيق دموعى ... دفنوه منها بدار العقيق
ولما أستقر ركابه بدمشق فرق العساكر في أواخر ذي الحجة من هذه السنة، فسير فرقةً صحبة الأمير بدر الدين بيسرى الشمسى إلى جهة قلعة الروم، وفرقة صحبة الأمير سيف الدين قلاون الألفى الصالحي إلى بلاد سيس معه خزانة برسم نفقات العساكر، فأنفق فيهم بحلب، ثم ساروا إلى سيس، وسار بدر الدين بيسرى إلى قلعة الروم، وكان القصد بتفريقهم التمكن من التدبير عليهم، فلما أبعدوهم إلى هذه الجهات وفرقوهم بحجة الغارات قرّروا مع الملك السعيد القبض عليهم عند عودهم، وأخذ إقطاعاتهم وموجودهم، وعينوا خبز كا واحد منهم لواحد منهم، هذا والأمير سيف الدين كوندك مطّلع عليهم، فلما اتفقت العودة من الغارة اجتمع الأمراء بالمرج ليدخلوا دمشق بالأطلاب والترتيب على العادة، فأرسل سيف الدين كوندك إلى الأميرين المذكورين وهما بدر الدين بيسرى وسيف الدين قلاون سرا، فعرفهما بما اتفقت الخاصكيّة عليه، وما انتهى الحال إليه، فأسرّا ذلك في أنفسهما، ثم خرج الأمير سيف الدين كوندك لتلقيهما، وأعلمهما الأمر مشافهةً، فتحققا الخبر ولم يشكّا فيه، لعلمهما بانفعال السلطان وميله إلى آراء الصبيان.
فأقاموا بالمرج ولم يدخلوا دمشق، وأرسلوا إلى الملك السعيد يقولون له: إننا مقيمون بالمرج وإن سيف الدين كوندك شكى إلينا من لاجين الزينى شكاوى كثيرة، ولابد لنا من الكشف عنها فيسيره السلطان إلينا انسمع كلام كل منهما وننصف بينهما.
فلم يعيأ بقولهم ولم يسير لاجين الزينى إليهم، وكتب إلى الأمراء الظاهريّة الذين معهم بإن يفارقوهم ويعبروا دمشق، فأرسل الكتب إليهم مع قاصد، فوقع به أصحاب كوندك، فأحضروه إليه، فأحضره إلى الأمراء، فوقفوا على ما معه من الكتب، فتحققوا سوء رأيه فيهم، فرحلوا من وقتهم ونزلوا على الجسورة من ناحية داريا، وأظهروا الأمور الدالّة على الخلاف، وتجريد صوارم الهجر من الغلاف.