ثم اعلم ان الديار المصرية والشامية انتهت بعد إنقضاء الدولة العبيدية الفاطمية إلى الدولة الأيوبية كما ذكرناه مفصلاً، ثم لما شاء الله تعالى انقراض الدولة الأيوبية وذريتها سبق في علمه الأزلى أن صلاح هذه المملكة بتوليه أولى النجدة والبأس، وأن الترك من بينهم هم أصلح الأجناس، وأن في هدايتهم إلى الإيمان صلاحاً خاصاً وعاماً، فأخرج طائفة منهم من الظلمات إلى النور، وحباهم بأنواع العطايا بالبهجة والسرور، وقيض الله تجارا أخرجوهم إلى الآفاق خصوصاً في أيام استيلاء التتار على البلاد المشرقية والشمالية وعلى الأتراك القفجاقية، فجاءت منهم طائفة إلى البلاد الشامية والديار المصرية في أواخر الدولة الأيوبية، فاشتراهم ملوك بنى بأبخس الأثمان ليزينوا بهم مواكبهم في البلدان، وليتخذوهم عدة عند النوائب، لما فيهم من الشجاعة والإقدام في المصائب، ثم صارت منهم جماعةً أمراء كباراً مقدّمين، وجماعة منهم ملوكاً سلاطين، فملك منهم من الذين جُلبوا وبيعُوا إلى يومنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة أحد عشر نفسا وهم: الملك المعزُّ أيبك التركمانى: وهو أول الملوك الأتراك الذين ملكوا الديار المصريَّة، والملك المظفر قطز، والملك الظاهر بيبرس، والملك المنصور قلاون، والملك العادل كتبغا، والملك المنصور لاجين، والملك المظفر بيبرس الجاشنكير، والملك المظاهر برقوق، والملك المؤيد شيخ، والملك الظاهر ططر، والملك الأشرف برسباى.

قال بيبرس في تاريخه: وأوَّل من اهتم بتحصيلهم واحتفل بتجميلهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأخوه الملك العادل أبو بكر، ثم ولده الملك الكامل، ولما آلت المملكة إلى ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب استكثر منهم استكثاراً بذل فيهم المجهود، وبلغ منهم المقصود، وبذل فيهم الأموال الكثيرة، وأصرف لأجلهم الأشياء الغزيرة، ثم لما مات الملك الصالح نجم الدين أيوب، وقتل ابنه الملك المعظم، ولُّوا زوجة أستاذهم الملك الصالح المسماة بشجر الدُرّ لقصدهم استمرار الملك في البيت الأيوبي ولا يخرج عنه، وتصدُر الأمور كلها منه فكانوا لها أطوع من البنان برهةً من الزمان، ثم لما رأوا أنّ ذلك قصر بحقوق الملك وأزْرَى عليه، واشتدَّت أطماع من كان بالشام إليه، فاحتاجوا إلى إقامة رجل يزاحم بمكنبه المناكب، ويُباهى بموكبه المواكب، ويقوم بتدبير البلاد والعباد، ويحسمُ مادَّة الفساد والعناد، ويبنى الملك على الأساس والعماد.

قال الشاعر:

لا يصلح الناسُ لاسَراة لهم ... ولا سَرَاة إذا جُهْالُهُمْ سَاُدوا

والبَيْتُ لا يُبْنَى إلاَّ بأعمدةٍ ... ولا عمادا إذا لم تُرَسَّ أوتْادُ

فإن تجَّمع أوتادٌ وأعمدةٌ ... فقد بلغوا الأمرَ الذى كادُوا

فأقاموا الأمير عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحى مدبر الممالك مضافاً أسمه إلى اسم الملك الأشرف موسى بن الملك المسعود المعروف بأطِسز بن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب في التواقيع والمناشير وسكة الدراهم والدنانير، فاستقر الأمر على ذلك.

ثم لما ظهرت أطماع الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز بن الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب البلاد الحلبيّة والشاميّة، وتبع على ذلك الإرجاف بما تواتر من الأخبار بحركة التتار، ولا سيما دخول هلاون بلاد العراق، واستيلائهم على تلك الآفاق، ورأوا صغرَ سنّ الملك الأشرف، وعدم قيامه بواجب أمور المملكة، اجتمعت الآراءُ، واتفقت الأمراءُ على استقلال عز الدين أيبك التركمانى الجاشنكير بالسلطنة، واستقلاله بها على انفراده، فأقاموه على ذلك، وأزالوا عن الأشرف اسم السلطنة، وأسقطوا اسمه من السكة والخطبة.

قال بيبرس في تاريخه: وذلك في شهور هذه السنة، أعنى سنة خمسين وستمائة.

قلت: ذكر بيبرس هذا في السنة الماضية، أعنى في سنة تسعة وأربعين وستمائة، وقال هناك: عزم الملك المعزّ أيبك على تزويج شجر الدر والاستقلال بالسلطنة وإبطال أمر الملك الأشرف من الملك، فأبطله وخلعه وأزاله ونزعه، ثم قال ها هنا: إن الاتفاق على سلطنته كان في هذه السنة، أعنى سنة خمسين وستمائة.

ومع هذا ذكر هو وغيرُه أن الملك المعز أيبك إنما كانت سلطنته في سنة ثمانية وأربعين وستمائة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015