قلت: التوفيق في هذا الكلام أنه تسلطن في سنة ثمانية وأربعين وستمائة، ولكنه ما أقام إلا شيئاً يسيرا جداً، كما ذكرناه هناك، ولم يعتبروا هذه السلطنة حيث لم تمتد أيامُها ولا ظهرت أحكامها، فكانت كسلطنة الأمير بيدراً عند قتله الملك الشرف خليل بن الملك المنصور قلاون عند الطرَّانة، فإنه تسلطن وتلقب بالملك الأشرف خليل بن الملك المنصور قلاون عند الطرَّانة، فإنه تسلطن ولقب بالملك القاهر وأقام نصف نهار، ثم ضربت رقبته كما سيأتى بيانه إن شاء الله تعالى، ثم كان عزمه للسلطنة واستقلاله بها في أواخر سنة تسعة وأربعين وستمائة، فلذلك ذكروا أن سلطنته كانت في هذه السنة، أعنى سنة تسعة وأربعين وستمائة، ولكن لما وقع استقلاله التامُّ بها، وظهوره بها، ونفاذ كلمته، وانتشار مراسيمه في هذه السنة، أعنى سنة خمسين وستمائة، أُسندَت سلطنته وظهورها التام إلى هذه السنة، أعنى سنة خمسين.
ثم لما استقل بذلك في هذه السنة شرع في تحصيل الأموال، واستخدام الرجال، واستوزر شخصا من نظار الدواوين يسمى شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزى، كان من القبط الكُتاب، ثم عدل عن أهل الكتاب، وأسلم في الدولة الكاملية، وتقدم في المنساب الديوانية، فقرر اموالا على التجار وذوى اليسار وأرباب العقار، ورتب مكوساً وضمانات وسماها حقوقا ومعاملا واستقرت وتزيدت إلى يومنا هذا.
ثم في هذه السنة أمر الملك المعز كبار مماليكه، ورتب سيف الدين قطز نائب السلطنة، وكان أكبرهم وأقدمهم هجرةً، وأعظمهم لديه اثرةً، وقطع خبز حسام الدين بن على الهذبانى الذي كان نائباً بالديار المصرية، ثم لما قطع الملك المعز خبزه طلب دستورا ان يروح إلى الشام، فأعطاه دستورا، فسافر إلى الملك الناصر يوسف وأعطاه امرة خمسمائة فارس.
وفي هذه السنة تسلم المصريون الشوبك من نائب الملك المغيث فتح الدين عمر، ولم يبق بيده غير الكرك والبلقاء وبعض الغور.
منها: أن التتار وصلت إلى الجيزرة وسُرُوج ورأس العين وما والى هذه البلاد، فقتلوا وسبوا، ونهبوا وخربوا، ووقعوا بتجار يسيرون بين حران وراس العين، فأخذوا منهم ستمائة حمل سكر ومعمول مصر، وستمائة الف دينار، وقتلوا في هذه البلاد زيادة على عشة آلاف نفس، وقتلوا الشيوخ والعجائز، وساقوا من النسوان والصبيان ما أرادوا، وردعوا إلى خلاط، وقطع أهل الشرق الفرات، وخاض الناس في القتلى من دنيسر إلى الفرات.
قال السبط: وحكى لى شخص من التجار قال: عددتُ على جسر بين حران وراس العين في مكان واحد ثلاثمائة وثمانين قتيلا.
ومنها: أنه وقع حريق بحلب، احترق بسببه ستمائة دار، يقال: إن الفرنج لعنهم الله ألقوه فيها قصداً.
ومنها: أنه استقرَّ الصلح بين الملك الناصر يوسف صاحب الشام وبين البحرية بمصر، على أن يكون للمصريين إلى نهر الاردنُ وللملك الناصر ما وراء ذلك، وذلك بواسطة نجم الدين البادرائى رسول الخليفة بسبب ذلك.
قال بيبرس: وفي هذه السنة وصل من بغداد إلى القاهرة لاشيخ نجم الدين ابن البدرائى رسولا من عند الخليفة المستعصم ليصلح ما بين الملك الناصر صاحب الشام وبين الملك المعزّ صاحب مصر، فتقرر الصلح وترتب، ورجع الناصر وعسكره إلى دمشق، وعاد المعز من الباردة إلى قلعة الجبل.
ومنها: أن الملك الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب أفرج عن الناصر داود بن المعظم، صاحب الكرك كان، وكان قد اعتقله بقلعة حمص على ما ذكرناه، وذلك بشفاعة الخليفة المستعصم فيه، فأفرج عنه وأمره أن لا يسكن في بلاده، فرحل الناصر داود المذكور إلى جهة بغداغد، فلم يمكنوه من الوصول إليها وطلب وديعته الجوهر، فمنعوه غياها، وكبت الناصر يوسف إلى ملوك الأطراف: ولا يأووه ولا يُميروه، فبقى الناصر داود في دهات عانة والحدث، وضاق به الحال وبمن معه، وانضمت إليه جماعةٌ من غَزية، فبقوا يرحلون وينزلون جميعا، ثم لما قوى عليهم الحر ولم يبق بالبرية عشب ولا كلأٌ، قصدوا أزوار الفرات يقاسون بق الليل وهواجر النهار، وكان معه أولاده، وكان لولده الظاهر شادى فهدٌ، فكان يصيدُ في النهار ما يزيد على عشرة غزلان، وكان يمضى للناصر ولأصحابه أيام لا يطعمون غير لحوم الغزلان.