وقال بيبرس في تاريخه: هذه الطّامة التي حصلت على المسلمين بعد فتح القرين، فقال: خرج السلطان من دمشق بعد فراغه من الجهات التي ذكرناها في العشر الآخر من شوال، وسار إلى القرين ونازله في ثاني ذي القعدة، وأخذت باشورته، وسأل من فيه الأمان، فكتب لهم أمانا، وتقرّر خروجهم وتوجّههم حيث شاءوا، وأنهم لا يستصبون مالا ولا سلاحا، وتسلّم السلطان الحصن وأمر بهدم قلعته، ثم سار عنه ونزل اللجون، وتقدمت مر اسمه إلى البواب بالديار المصريّة وتجهيز الشواني وتسفيرها إلى قبرس، فجهزهّا البواب، وسفّروها صحبة مقدم البحر ورؤساء الخلافة، فلما وصلت إلى مرسى النسمون تحت قبرس جنهّا الليل، وتقدّم الشيني الأّول داخلا على أنه يقصد الميناء، فصادف الشعاب في الظلماء، فانكسر، وتبعه الشواني واحدا فواحدا، ولم تعلم بما أصابه، فانكسروا في دجى الليل جميعا، وأسرهم أهل قبرس، وكان ابن حسون المقدّم قد أشار برأي، تطيّر الناس منه، وهي أن تطلى الشواني بالقار، ويعمل عليها الصلبان لتشبته على الفرنج بشوانيهم، فيتمكن من موانيهم، فاقتضى تغيير شعارها بما أراد الله من انكسارها.

وورد كتاب صاحب قبرس إلى السلطان يخبر بأن شواني مصر وصلت إلى قبرس، وكسرها الريح وأخذتها، وهي أحد عشر شينيا، فأمر السلطان بأن يكتب جوابه، فكتب إليه هذه المكاتبة: إلى حضرة الملك أوك دلزنيال، جعله الله ممن يوفى الحق لأهله، ولا يفتخر بنصر إلا أني قيله أو بعده بخير منه أو مثله، نعلمه أن الله إذا أسعد إنساناً دفع عنه الكثير من قضائه باليسير، وأحسن له التدبير فيما جرت به المقادير، وقد كنت عرفتنا أن الهواء كسر عدةً من شوانينا وصار بذلك يتجج، وبه يقرح، ونحن الآن نبشره بفتح القرين، وأين البشارة بتملك القرين من البشارة بما كفى الله ماكنا من العين، وما العجب أن يفخر بالاستيلاء على حديد وخشب، الاستيلاء على الحصينة هو العجب، وقد قال وقلنا، وعلم الله إن قولنا هو الصحيح، واتكل واتكلنا، وليس من اتكل على الله وسيفه كمن اتكل على الريح، وما النصر بالهواء مليح، إنما النصر بالسيف هو المليح، ونحن ننشئ في يوم واحد عدّة قطائع، ولا ينشأ لكم من حصن قطعة، ونجهزّ مائة قلع ولا يجهزّ لكم في مائة سنة قلعة، وكلّ من أعطى مقداف قذّف، وما كلّ من أعطى سيف أحسن الضرب به أو عرف، وإن عدمت من بحرية المراكب آحاد فعندنا من بحرية المراكب ألوف، وأين الذين يطعنون بالقاديف في صدر البحر من الذين يطعنون بالرماح في صدر الصفوف، وأنتم خيولكم المراكب ونحن مراكبنا الخيول، وفرق بين من يجريها كالبحار ومن تقف به في الوحول وفرق بين من يتصيد الصقور من الخيل العراب، وبين من إذا افتخر قال: تصيدت بغراب، فائن كنتم أخذتم لنا قرية مكسورة فكم أخذنا لكم قرية معمورة، وإن استوليتم على سكان فكم أخلينا بلادكم من سكان، وقد كسبت وكسبنا، فترى اينّا أغنم، ولو أن في الملك سكوتا كان الواجب عليه أن سكت وما تكلم.

ذكر فتح عكّار

نزل السلطان على عكار في سابع عشر رمضان المعظم ومهد الطرقات لطلوع المجانيق، واستدّ أهله في المناضلة ورمى الحجارة والمجانيق، واستشهد عليه ركن الدين منكورس الدوادارىّ، وكان يصلي في خيمته، فجاءه حجر فمات من وقته، وشددّت العساكر لحصار، وأخذوا النقوب تحت الأسوار، فلما رأوا أنهم عاجزون عن مقايلتهم طلبوا الأمان ورفعت عليه السناجق، وخرجت أهله في سلخ الشهر، فجهّزوا إلى مأمنهم: وعيّد السلطان بها عيد الفطر، ثم رحل إلى مخّيمه بالمرج، فقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في ذلك:

يا مليك الأرض بشرا ... ك فقد نلت الإرادة

إن عكار يقينا ... هي عكّا وزيادة

وكان هذا الحصن شديد الضرر على المسلمين، وهي في وادي بين جبال.

ثم إن السلطان نفق العساكر بنفقة كاملة، ثم بعد التفقة سار طالبا مدينة طرابلس، وقد أمر العساكر فلبسوا الجواشن والخزذ، وساروا بأهبة الحرب، وأحاطوا بطرابلس إحاطة الهالات بالأقمار، والأكمام بالأثمار، فلما عاين برنس طرابلس قدوم العساكر وهجوهمهم كا لسيل الهامر أرسل يسال الصلح، فأجابه السلطان إليه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015