استهلت هذه السنة، والخليفة هو: الحاكم بأمر الله العباسي.
وسلطان الديار المصرية والشامية: الملك الظاهر بيبرس الصالحي النجمي، ففي مستهل صفر منها ركب وتوجه إلى الشام، واستحب معه ولده الملك السعيد، والأصح أنه ما استصحب ولده إلا في السفرة الثانية، على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى، ومعه طائفة من العسكر، وجاز على عسقلان، وهدم ما بقي من سورها، مما كان أهمل، ووجد فيما هدم كوزين فيهما ألف دينار، ففرقهما على الأمراء.
وجاءت البشارة هناك بأن منكو تمر كسر جيش أبغا، ففرح بذلك، ثم عاد إلى القاهرة مؤيداً منصورا.
وفيها توجه السلطان الظاهر إلى الشام، واستصحب معه ولده الملك السعيد، والوزير بهاء الدين بن حنا، وجمهور الجيش، ودخل دمشق يوم الخميس ثامن رجب 563 في أبهةٍ عظيمة وابنه الملك السعيد قدامه، وكان يوماً مشهوداً، وفي طريقه شن الإغارة على طرابلس، واتصلت غارته بصافيتا، وجرد فرقه من العسكر صحبة الأمير سيف الدين قلاون الألفى، والأمير فخر الدين بيليك الخزندار الظاهرى، وسير صحبتهما الملك السعيد ولده، فأغاروا على ناحية المرقب، فعند عود السلطان من الغارة على طرابلس عاد الملك السعيد ومن معه من الغارة على جهة المرقب، وتوافوا ونزلوا على حصن الأكراد في تاسع شهر شعبان من هذه السنة
ونزل السلطان عليه في تاسع الشهر المذكور، وجد في خصاره وقتاله، فلما كان العشرون منه أخذت أرباضه، وزاحفة العساكر، فطلبوا القلعة وتسلموها، وطلع الفرنج إلى القلة، ثم طلبوا الأمان، فأجابهم إليه، فخرجوا وجهزوا إلى بلادهم في الرابع العشرين منه، وتسلم السلطان الحصن، وكتب إلى مقدم الإسبتار صاحب الحصن كتابا نسخته: هذه المكاتبه إلى أفريرأوك، جعله الله من لا يعترض على القدر، ولا يعاند من سخرّ لجيشه النصر والظفر، ولا يعتقد أنه ينجي من أمر الله الحذر، ولا يحمي منه محجور البناء، ولا مبني الحجر، تعلمه بما سهّل الله من فتح حصن الأكراد الذي حصنته وبنيته وخليته، وكنت الموفق لو أخليته، واتكلت في حفظه على إخواتك فما نفعوك، وضيّعتهم بالإقامة فيه فضيعوه، وضيّعوك، وما كانت هذه العساكر تنزل على حصن ويبقى، أو تخدم سعيداً وتسقي.
وقال ابن كثير: وكان الذي حاصره ابن السلطان الملك السعيد، فأطلق السلطان أهله ومن عليهم، وأجلاهم إلى طرابلس، وتسلم القلعة بعد عشرة أيام من الفتح فأخلاها أيضا، وجعل كنيسة البلد جامعا، وأقام فيه الجمعة، وولى فيها نائبا وقاضيا، وأمر بعمارة البلد.
وبعث إليه صاحب أنطرسوس واسمه كمندور، ومقدم بيت الإسبتار وسألا الصلح، فأجابهم السلطان إلى الصلح على أنطرسوس والمرقب خاصةً خارجا عن صافيتا وبلادها، واسترجع منهم بلدة وأعمالها، وما أخذوه في الأيام الناصرية، وعلى أن جميع ما لهم من الحقوق والمناصفات على بلاد الإسلام يتركونه، وعلى أن تكون البلاد المرقب ووجوه أمواله مناصفة بين السلطان وبين الإسبتار، وعلى أن لا تجدد عمارة المرقب، وحلف لهم على ذلك، وأخلو قرفيص، وأحرقوا ما لم يمكن حمله.
وقال ابن كثير: لما فتح الملك السعيد بن الظاهر حصن الأكراد جعل كنيستها جامعا وأقام فيه الجمعة، وولى السلطان فيه نائبا وقاضيا، وأمر بعمارة البلد، ثم أنه بلغ السلطان وهو مخيم على حصن الأكراد أن صاحب جزيرة قبرص قد ركب بجيشه إلى عكا لينصر أهلها خوفا عليهم من الملك الظاهر، فأراد السلطان أن يغتنم هذه الفرصة، فبعث جيشا كثيفا في سبعة عشر شينيا ليأخذوا جزيرة قبرس في غيبة صاحبها عنها، فسارت المراكب مسرعةً، فلما قاربت الجزيرة جاءتها ريح قاصف، وصادفت بعضها بعضا، فتحطم منها أحد عشر مركبا بإذن الله عز وجل، فغرق خلق وأسر الفرنج من الصناع والرجال قريب من ألف وثمانمائة إنسان إنا لله وإنا إليه راجعون.