وقال بيبرس: في مستهل المحرم من سنة ثمان وستين وستمائة عاد السلطان من الكرك، وتوجه إلى دمشق جريدة، وحضر إلى اليدان بغتة، وتوجه من نهاره إلى حلب فدخلها والأمراء في الموكب، فما عرفه أحد، وبقي بينهم ساعةً حتى عرفوه، ونزل بدار نائب السلطنة، وشاهد القلعة، وعاد إلى دمشق، فوصلها في ثالث عشر المحرم من سنة ثمان وستين، وتوجه إلى القدس الشريف والخليل زارهما، وكان العسكر قد سبقه صحبة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقاني إلى تل العجول، فوصل إلى المنزلة المذكورة، فصل الجمعة في الكرك، والجمعة الثانية في حلب، والجمعة الثالثة في دمشق، ورحل من تل العجول فدخل قلعة القاهرة في الثالث صفر من سنة ثمان وستين، وفي ثامن عشره توجه إلى الإسكندرية، وفي طريقه دخل البرية متصيداً، وضرب حلقا على الكحيليات فصار في كل حلقة منها ما يقارب حمسمائة غزال وأقل وأكثر، ومن النعام وبقر الوحش كثير، فكان كل من أحضر غزالا أعطي بغلطاقا، ومن ضرب نعاما أو بقرا أعطي فرساً، ففرق من الخيل والخلع شيئاً كثيرا، ووصل إلى مكان يعرف بقصر فارس، وعاد إلى الإسكندرية، فأقام أياما، وفرق تعابى القماش على الأمراء، ووصلهم بالهبات، وعمهم بالصلات.
وقال ابن كثير: لما وصل السلطان إلى مكة تصدق على المجاورين بها، ثم وقف بعرفة، وطاف للإفاضة، وفتحت له الكعبة فغسلها بماء الورد وطيبها بيده، ثم وقف بباب الكعبة يتناول أيدي الناس ليدخلوا الكعبة وهو بينهم كأحدهم، ثم رجع فرمى الجمرات، ثم تعجل النفر فعاد على المدينة النبوية فزار القبر الشريف مرة ثانية.
ثم ساق إلى الكرك فدخلها في التاسع والعشرين من ذي الحجة وأرسل 553 المبشر إلى دمشق بقدومه سالما، فخرج الأمير جمال الدين أقوش النجيبي ليتلقى البشير في ثاني المحرم، فإذا بالسلطان الملك الظاهر بنفسه يسير في الميدان، فتعجب الناس من سرعة مسيره وصبره وجلده، ثم ساق حتى دخل حلب ليتفقد أحوالها، ثم عاد إلى حماة، ثم رجع إلى دمشق، ثم عاد إلى مصر فدخلها يوم الثلاثاء ثالث صفر في سنة ثمان وستين وستمائة.
وقال في ذلك القاضي محي الدين بن عبد الظاهر أبياتا منها:
حتى أتاها ظاهرٌ ملكٌ إذا ... شاء اختفى فأموره تتلبس
بينا تراه في الحجاز إذا به ... في الشام للحج الشريف يقدس
وتراه في حلب يدبر أمرها ... وتراه في مصر يذب ويحرس
ويلوح في حج عليه عباءةٌ ... ويلوح في عز وعليه أطلس
لا يزال للدنيا يسوس أمورها ... ويشيد الأخرى بها ويؤسيس
ومنها: أن السلطان أنعم على ناصر الدين محمد بن الأمير عز الدين الحلي بإمرة، ولم يتعرض إلى ما خلفه أبوه من المال الموجود.
ومنها أن السلطان تسلم بلاطنس من عز الدين عثمان صاحب صهيون، وقرر له عوضا عنها بلدا من بلاد صهيون، فقالوا: كانت خمس قرايا تعمل ثلاثين ألف درهم.
منها: أنه وردت الأخبار بأن زلزلة حدثت في بلاد سيس وأخرجت قلاعها مثل سرفندركار وحجر شغلان وقتلت جماعة.
ومنها: أنه توجه المغيرون من البيرة وغيرها إلى جهة كركر، وأحرقوا بيذرها، واستاقوا مواشيها، وتوجهوا إلى قلعة بينها وبين الكختا إسمها شرموساك، فزحفوا عليها، وقتلوا رجالها.
ومنها: أنه كان المصاف بين أبغا وبين براق، فكانت الهزيمة على براق وأصحابه، فغنموا وأسروا منهم وقتلوا، ونجا براق بنفسه مع بعض أصحابه، وبراق هذا هو ابن يسنتاي ابن ما ينقان بن خغطاي بن جنكزخان. وقيل: إن أبغا إنما أوقع به بعد الإيقاع بتكدار، لأنه ابن عمه، وكانا قد اتفقا على حربه.