قال بيبرس في تاريخه: ولما فرغ السلطان من تجهيز الرسل وإعادتهم، ودّع الأمراء الذين كانوا صحبته وأعطاهم دستورا ليتوجهوا إلى مصر، وخرج من دمشق وليس معه منهم غير: الأتابك، والمحمّدي، والأيدمري، وابن أطلس خان، وأقوش الرومي، وتوجه إلى القلاع فبدأ بالصبيبة، ومنها إلى الشقيف، وصفد فبلغته وفاة الأمير عز الدين الحلي بمصر، فوصل إلى خربة اللصوص والعسكر قد خيّم بها، فخطر له التّوجه إلى الديار المصرية، فكتب إلى النّواب بالشام بمكاتبة الملك السعيد بما يتجدّد من المهمات والاعتماد على ما يصدر عنه من الأجوبة والمكاتبات، ثم أظهر أنه قد تشوش جسمه، وصار البريد إذا جاء يقرأ عليه وتخرج علائم على دروج، فيكتب عنها الأجوبة، واستقر هذا الترتيب أياما، وأشيع ضعفه، وأحضر الحكماء إلى الدهليز، وشاهده الأمراء منجمعاً متألّمّا، وجهّز الأيدمريّ وجردبك على البريد إلى جهة حلب في ظاهر الأمر، وأوصاهما بما عليه في باطن السّر، وخرج ليلة السبت سادس عشر شعبان من الدهليز متنكرا، حاملا بقجة قماش في زيّ أحد البابية، وركب وصحبته الأميران المذكوران، وواحد من البريديّة، وواحد من السلحدريّة، وأربعة جنائب، وساق إلى جهة مصر، وجنيبه على يده، ومرّ بمراكز التبريد متنكّراً لا يعرفه أحد من الولاة، فوصل إلى القلعة ليلة الثلاثاء تاسع عشر الشهر، فأوقفهم الحرّاس حتى شاوروا الوالي، ونزلوا في باب الإصطيل، وكان قد رتب مع زمام الآدر، أن يبيت خلف باب السّر، فدقّ الباب وذكر لزمام الدّمر علائم كان يعرفها، ففتح له، وأحضر رفقته إلى بابا السّر، وأقام يوم الثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس لا يعلم أحد، وهو يشاهد الأمراء في الموكب من شباك على سوق الخيل، فلما كانت بكرة الخميس قدم الفرس ليركب الملك السعيد على عادته، وقدم للسلطان فرس فركب على غفلة، والوقت مغلس، فأنكر الأمراء الذين في الموكب الحال، فلما تحققوا السلطان قبلوا الأرض بين يديه، وعاد من الموكب إلى القلعة، فأقام بها إلى يوم السبت، ولعب الأكرة بالميدان وعاد إلى القلعة، ولما كانت ليلة الأثنين الخامس والعشرين من شعبان سافر عائدا إلى البريد، ولما وصل إلى الدهايزأخذ على يده جراب البريد وفي كتفه فوطه، وتوجّه راجلا ودخل من جهة الحرّاس، فمانعه حارس، فأمسك طوقه، فانجذب منه، وعبر من باب سر الدهليز، وركب عصر يوم الجمعة السابع والعشرين من شعبان، وحضر الأمراء الخدمة يهنئون بالعافية، وضربت البشائر لذلك، واهتم بالدهليز للحجاز الشريف، وهذا الذي صدر منه جراءة عظيمة وإقدام هائل.
ومنها: توجه السلطان إلى الحجاز الشريف في هذه السنة، ولما عزم على ذلك وهو في المخيم أنفق في العسكر، وعين منهم جماعة يتوجهون صحبته، وجهز بقية العسكر صحبة الأمير شمس الدين آفسنقر استادارا إلى دمشق، فأقاموا بها.
وتوجه السلطان إلى الكرك بصورة صيد، ولم يجسر أحد يتفوه بأنه متوجه إلى الحجاز حتى أن شخصا من الحجاب يسمى جمال الدين بن الداية قال: أشتهى أتوجه صحبة السلطان إلى الحجاز، فأمر قطع لسانه، ورحل من الغوار يوم الخامس والعشرين من شوال، فوصل الكرك مستهل ذي القعدة، وتوجّه في سادسه إلى الشوبك، ورحل منها في الحادي عشره، فوصل المدينة النبوية على ساكمنها أفضل الصلاة والسلام في الخامس والعشرين من ذي القعدة، وأحرم، وقدم مكة شرفها الله تعالى في خامس ذي الحجة، وبقي كأحد الناس لا يحجبه أحد، وغسل الكعبة بيده، وحمل الماء في القرب على كتفه، وغسل البيت، وجلس على الباب الكعبة الشريفة، فأخذ بأيدي الناس، وسبل البيت الشريف للناس، وكتب إلى صاحب اليمن كتابا يقول فيه: سطرتها من مكه، وقد أخذت طريقها في سبع عشرة خطوة، يعني بالخطوة المنزلة، وقضى حجه، وحلق ونحر، ورتب شمس الدين مروان نائبا بمكة، وأحسن إلى أميرها، وإلى صاحب ينبع، وصاحب خليص وزعماء الحجاز، وعاد، فكان خروجه من مكة ثالث عشر ذي الحجة، ووصوله إلى المدينة في العشرين منه، ووصل إلى الكرك سلخ ذي الحجة، ولم يعلم به أحد إلى أن وصل إلى قبر جعفر الطيار، رضي الله عنه، ودخل الكرك لابسا عباءة، راكبا هجينا، فبات بها ليلة، وأصبح متوجهّا إلى الشام جريدة.