وكان قد دخل في بلاد الإسلام كما ذكرناه، وكان بينه وبين السلطان الملك الظاهر صحبة ومودّة، وكان لا يقطع مكاتبته537 ولا مراسلته من الظاهر، وقد وقع بينه وبين هلاون من الحروب ما ذكرناه، وكان يحبّ العلماء والصالحين، ومن أكبر حسناته كسره لهلاون وتفريقه جنوده، وكان أعظم ملوك التتار، وكرسىّ مملكته مدينة صراى، توفى في هذه السنة ولم يكن له ذكر، فاستقّر عوضه ابن أخيه منكو تمر بن طوغان بن دوشى خان جنكزخان، وجلس على كرسى صراى، وصارت إليه مملكة التتار ببلاد الشمال والترك والقفجاق وباب الحديد وما يليه، ثم وقعت بينه أبغا بن هلاون حروب كثيرة، فكسره أبغا وغنم منه شيئا كثيرا، وعاد أبغا إلى بلاده، والله أعلم.
فصلّ قيما وقع من الحوادث في
استهلت هذه السنة والخليفة هو: الحاكم بأمر الله.
وسلطان البلاد المصريّة والشاميّة والحلبّية: الملك الظاهر بيبرس.
وسلطان الروم: الملك ركن الدين قليج أرسلان.
وصاحب العراقين وغيرهما: أبغا بن هلاون.
وصاحب البلاد الشمالية التي كرسيّها صراى: منكوتمر بن طوغان، وكتب إليه الملك الظاهر بالتعزية لأجل بركة خان، والتهنئة لأجل ولايته عوضه، وأغراه على قتال أبغا بن هلاون.
وفي شهر جمادى الآخرة تجهز السلطان لأجل السفر إلى الشام، وخرج من القاهرة في ثالث الشهر المذكور، ولما وصل إلى غزة أمر العساكر بمنازلة الشقيف، فنازلوها بغتة وضايقوها، وناوشوا أهلها القتال، ونزل السلطان بالعوجاء.
وفي جمادى الآخرة فتحت يافا، وذلك أن صاحبها جوان دباين سيّر متجرّمة في زىّ صيّادين إلى قطنا، واتفق هلاكه وقيام ولده مقامه، فلما وصل السلطان إلى العوجاء حضر إليه رسله وهم قسطلان يافا وأكابرها، فعوقّهم، وسيّر المحجاب إلى العساكر يأمرهم بلبس العدد والركوب على أتم أهبةٍ، وركب نصف الليل، فصبّح يافا صباحاً، فلما عاينوا كثرة العساكر المنصورة، وشاهدوا تلك الجيوش بتلك الأهبة والصورة، شملهم الذهول، وطارت منهم العقول، فملك المسلمون المدينة، ولجأ أهلها إلى القلعة، وسألوا الأمان على أن يطلقوا بأموالهم وأولادهم، فأجابهم، وتسلم القلعة منهم، وطلعت عليها السناجق السلطانّية في العشر الأوسط من جمادي الآخرة من هذه السنة، وأمر السلطان بهدم المدينة فهدمت، وكذلك هدمت القلعة، وقد كانت الفرنج قد اعتنوا بعمارتها وتحصينها فجعلوها بلقعاً لئلا يكون لهم إليها عودة، وقد كان الريد افرنس لما أطلق من الأسر من ثغر دمياط حضر إليها وعّمرها وأنفق عليها أموالا.
وذكر ابن عساكر في تاريخه: أن أوّل من بناها الملك طنكلى في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، ولما فرغ السلطان من هدمها رحل عنها إلى الشقيف منصورا.
في رجب من هذه السنة.
ولما أتى إليها السلطان نزل عليها، وقد كان جهّز لمضايقتها عسكرا صحبة بجكا العزيزي، وله قلعتان، ولما ضويقوا عجزوا عن حماية القلعتين، فأحرقوا أحديهما، فتسلمها المسلمون في السّادس والعشرين من رجب، وخرج الوزير كليام من القلعة الآخرى مستأمنا فأمنه السلطان، وفي آخر الشهر تسلمت وطلعت عليها السناجق السلطانّية ونصبت، وأخرج أهلها وصيّروا إلى جهة صور، وبعث السلطان الأنفال إلى الشام.
ثم رحل عنها وبثّ العساكر للإغارة على طرابلس وأعمالها، فقطعوا أشجارها وخرّبوا ما حولها من الكنائس، ونهبوا وسبوا، فلما سمع صاحب صافيتا وأنطرسوس بما حل بالفرنج من العكوس خاف أن يمسه ما مسّهم من البؤس، فبادر إلى الخدمة، وتلّقى العساكر بالإقامة، وأحضر من كان عنده من أسرى المسلمين، وكانوا ثلاثمائة أسير.
539 - ثم رحل السلطان إلى حمص، ومن حمص إلى حماة.
في شهر رمضان من هذه السنة.
وهي مدينة عظيمة، يقال إن دور سورها اثنى عشر ميلا، وعدد بروجها مائة وثلاثون برجا، وعدد شرفاتها أربعة وعشرون ألف شرفة.
ولما رحل السلطان من حمص إلى حماة فرّق العساكر ثلاث فرق: فرقة صحبته، وفرقة صحبة الأمير سيف الدين قلاون الألفي، وفرقة صحبة الأمير عز الدين يوغان الركني.