قال سيدي عبد العزيز الديريني - رحمه الله - في كتابه الروضة الأنيقة: باب في حوادث حدثت زماننا: اعلم أن الذي دعا إلى تصنيف هذا المختصر أن قوماً في هذا الزمان ابتدعوا طريقاً مخالفة لطريق القوم، وزعموا أن لهم فيها مقاصد صالحة فمنها: الخلوة بالنساء، والحديث معهن، وربما زاد بعضهم المعانقة، والقُبلة، والملامسة مع الأجانب، وسلك آخرون مع الشباب مثل ذلك، وهذا ما لا يخفى على ذي لبابة من حيل الشيطان ومكايده، ومن حبائله ومصايده، قال عز وجل مخاطبا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم - مع مرتبتهم - في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم - مع رتبتهن وكونهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم بل أعظم منهن في الوقار والتعظيم - (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) فمن ادعى أنه أقوى إيماناً من الصحابة، أو أن النساء اللاتي يخلو بهن أطهر قلوباً وأملك نفوساً من نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد عظم الافتراء، وأكثر الاجتراء في حديث الخلوة وحدها، فكيف بما زاد على ذلك. وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معتكفا في رمضان فدخلت عنده زوجته حفصة بنت عمر فتحدثت عنده ساعة ثم خرجت فرأى رجلين في الطريق فقال: هي أمكما حفصة فقالا: سبحان الله يا رسول الله فقال: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا ". فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف أن يوقع الشيطان في نفوس الناس أنه كان عنده امرأة أجنبية، فكيف يسلم غيره من أن يوقع الناس فيه؟! فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تخلون بامرأة ولو أقرأتموها القرآن ". وروى أن النساء اجتمعن عنده فطلبن أن يعاهدن باليد فقال: لا تمس يدي يد امرأة ولكن قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة فبايعهن بالكلام من غير ملامسة. وروي أنه لما طلبن " البركة " وضع يده في ماء ثم نقل إليهن فوضعن أيديهن فيه. فإذا كان سيد الأولين والآخرين يجتنب هذه الأمور وغيره يقتحم ما هو أعظم منها فكيف يخفى على عاقل قبح ما يتعاطون نسأل الله العافية بمنه وكرمه. وأعظم من ذلك إنكارهم على من يتجنب هذه القبائح وقولهم: " أنت ضعيف القلب ". وليس ضعيف إلا إيمانهم. وقولهم: " الفقير لا يفيده شيء " فهذا باطل فإن المحرمات لا تختص بواحد دون واحد، فإن قصدوا أن الفقير لا يقع في معصية فقد كذبوا فإن هذه الأشياء في نفسها معاصي، فكيف يقال لمن عصى أنه لم يعص، وإن قصدوا بالتغيير أن نعم الله عليه أو توالى الأنوار والكشف لديه فهذا غلط عظيم، فإن الفتوحات والكرامات وطيب الأوقات إنما تكون علامة للقرب إذا كان صاحبها مستقيما على طريق التحقيق، فأما ظهورها مع التخليط ومخالفة الشرع فإنه علامة مكر واستدراج كما قال تعالى: (وسنستدرجهم من حيث لا يعلمون) وأما قولهم: إن من النساء والشباب من له قصد في تحصيل علم أو أدب، فلو أن الناس كلهم يتجنبون عِشْرة النساء والشباب لم يُحَصِّل أحدهم علما ولا أدبا، فالجواب أن التعليم والتأديب يختص بالعلماء العارفين فكيف يقصد تعليم الغير من لا علم عنده ولا معرفة، وهذه مرتبة عظيمة ولا تصلح إلا للراسخين في العلم والمعرفة، ثم إن من يصلح لهذا لا يحل له أن يزيد في الاجتماع بالنساء والشباب على ما تدعو إليه الحاجة وهو أن الاجتماع لا يكون في خلوة، ولا مع انبساط ولا مرح بل لا يتكلم إلا في جد وحزم وموعظة وعلم ولا يلح النظر وإن قدر لم ينظر أصلاً، فقد رأيت بعض مشايخنا العلماء العارفين عود نفسه غض بصره عن الرجال، وصار ذلك عادة له لا يتكلفها مع النساء، ولقد كان بينه وبين نساء عندنا قرابة، فكان يزورهن لصلة الرحم، وأنا معه فيقف على باب الدار حتى تخرج إليه المرأة، فيسلم عليها من بعيد، ويغض بصره، وينصرف فكيف يسلم من يدخل بيوت أزواجهن من غير إذن، ويأكل طعامهم، ثم ينبسط، ويخرج ويفتح عينيه ويمد يديه، وربما زاد فوق هذا، وقد ورد في الصحيح: " العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع، واليدان زناهما اللمس " وهذه الأفعال كلها من الزنا وهل يحل الزنا بنية صالحة؟ وهل تعتبر النيات في المحرمات؟ والحديث إنما ورد في المباحات والطاعات فإن المباح إذا كان بنية صالحة صار طاعة، والطاعة إذا لم يكن فيها إخلاص بنية لله فهي رياء فهذا معنى قول