الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وتابعيهم من الأولياء المقربين، وأهل طاعتك الذين اصطفيتهم على كثير من عبادك المؤمنين، وخصصتهم بالقرب من حضرتك، وأطلعتهم على البعض من علومك، وأكرمتهم بالتوحيد والطاعة والهدى والتوفيق، وجعلتهم خلفاء أنبيائك في المعجزات، وأظهرت منهم للخلق والكرامات، وأقمتهم لحمل البليات التي تنزل على الخلق من السموات، فهم لحملها صابرين، ولما أقمتهم فيه ممتثلين، ولك راضين، وأقطارها متداركين، ولمصالح العباد بأمرك قاضين، ولطريق الحقيقة تابعين، ومن أقولهم وأفعالهم أهل العلم للشريعة سالكين، ومقتدين، فهم نور الدنيا ومصابيحها، فلا يسلك أحد مسلكا إلاّ بضوء تلك المصابيح، فبهم نهتدي، وبطريقهم نقتدي، وبسرهم الغيث نستقي، وإنهم في جميع أقطار الأرض دائرين، وللحضرة مشاهدين، وللكروب بإذن ربهم عن العباد كاشفين، ولكل منهم مرتبة قائم بها بإذن رب العالمين، فهم على هذه الأحوال ملازمين، وبذكر الله تعالى ليسوا بغافلين، وبالسر مشهورين، وعلى الخلق في علم التوحيد وعلم الحقيقة مرفوعين، وقلوبهم وأعضاؤهم بالإيمان مملوئين، يتفاضلون في الإيمان على قدر مراتبهم في منازل القرب من " أنواع التوحيد وأقسام الهداية ".
أنواع التوحيد
فأنواع التوحيد ثلاثة: يعلم أن الله تعالى منفرد بالتدبير، والتأثير، وتوحيد الملك، وأن تفرده سبحانه بالسيادة التامة والسياسة العامة.
وتوحيد الألوهية بثلاثة أمور: أحدها: أن يؤله بحيث يستولي على القلب العظمة والحب حتى لا يبقى لغيره فيه متسع. الثاني: ألاّ يلجأ في الحاجات دفعاً ولا نفعاً إلاّ إليه. الثالث: أن يسارع في مُجَابه ومراضيه.
وأقسام الهداية ثلاثة أيضاً: معنى الأول: خلق التوحيد في القلب، وهو المعرفة بالله تعالى. وخلق الله تعالى في القلب ثلاثة أمور: نور المعرفة.
2 - ونور المحبة.
3 - ونور العقل.
الثاني: من أقسام الهداية: تكون الهداية بمعنى الدوام على الإيمان والثبات عليه، ومنه قوله الموحد (اهْدِنَا الصِرِّاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ) أي أرزقنا الدوام عليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ". وكان من دعائه: " يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك ".
والفرق بينه وبين الأول: أنه يسأل في الأول الدوام والثبات على الإيمان، ويسأل في الثاني أنه يصرف قلبه إلى طاعته، وفيه إشارة إلى التوفيق وهو الإعانة على الإتيان بما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه. والتوفيق: هو إتيان العبد الطاعة على وفق ما أمر ربه، فإذا أتى به موافقاً لأمره فقد حصل التوفيق، ومتى نقص أو زاد أو ترك فعلاً فإنه جانب التوفيق. ولما كان الإيمان لا يحصل إلاّ بالله تعالى، خلق الله في قلب العبد نور المحبة للإيمان، لأن المحبة تقيد المحبوب، لأن من أحب شيئاً أمسكه. ولما كان المحبوب يحتاج إلى من يحفظه من وسواسه، ويمنعه من الأعداء - وهم الشياطين - من الإنس والجن الذين يدعون إلى الكفر وعبادة غير الله تعالى، أعطى الله تعالى العبد نور العقل وهو الثالث من الأنوار حتى يحفظ الإيمان الذي حببه إليه والنعم التي مَنّ الله تعالى بها علينا وهي: نور المعرفة، ونور المحبة، ونور العقل، وهي المتقدم ذكرها وقد ذكرها الله تعالى في سورة الحجرات. فالإشارة إلى نور المعرفة بقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) ففيه الأمر بمعرفة الرسول والمرسل. وقوله تعالى: (وَلكن اللهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيَمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) إشارة إلى نور المحبة المقيدة. وقوله تعالى: (وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ والْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) إشارة إلى نور العقل، وبذلك تندفع وسوسة العبد وأمراض القلب من البغى والحسد والتكبر والحقد والسخرية والغيبة والنميمة وغبر ذلك، وبنور العقل تندفع وسوسة الشيطان وجميع البدع، وبنور العقل يحفظ الإيمان مما ينازعه ويشوش عليه من الأكدّار التي تجر إلى الكفر والمعاصي وتتبع الشهوات، وقد قيل: إن المعاصي بريد الكفر، وأن من اتبع الشهوات فقد غرس في قلبه شجر الندامات.