وبعد مقام التوبة يترقى الإنسان إلى مقام الشكر على النعم، لأنه يشهد نعم الله التي كانت مستورة عنه بذنوبه وكانت مغطاة بسوء خلقه، وبأوصافه الذميمة التي كانت يتحلى بها، فلم يكن يستشعر نعمة الله.
عباد الله! كثير من الناس تجد أن القلق الذي يصيبهم والحزن الذي يغلق نفوسهم سببه أن الذنوب قد سترت استشعار نعمة الله عندهم فغيرت سلوكهم؛ لكن إذا تخلصوا من هذه الذنوب، اتسعت أخلاقهم واتسع بالهم وعرفوا أنهم لا ينالهم إلا ما كتب لهم، وأن الدنيا زائلة، وأنها دار الغرور، وبالتالي فكل ما فيها لا ينبغي أن يصيب المؤمن بحزن: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ٍ} [الحديد:23].
فمن تجاوز مظلة الذنوب وخرق جدار الصوت -فهي بمثابة جدار الصوت الذي يحيط بهذه الأرض- استطاع أن يشكر النعمة.
وشكر النعمة هو صرف جميع نعم الله في مرضاته، فالوقت نعمة من الله فيصرفه الإنسان في مرضاته، والإيمان نعمة من الله فيصرفه في مرضاته، الجوارح نعمة من الله فيصرفها في مرضاته، فيسعى حينئذ لأن تنكشف له أبواب النعم التي كانت مستورة عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، كثير من الناس حيل بينهم وبين أن يشاهدوا النعمة، فهم يعيشون فيها ولا يشاهدونها ولا يدركونها، فحينئذ لا يمكن أن يشكروها، لأنهم ما عرفوها أصلاً، بل هم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وأكثرهم كافرون.