أما الأمانة فالمقصود بها: حفظ جوارحهم الظاهرة والباطنة من التعدي على ما اؤتمنوا عليه من وحي الله سبحانه وتعالى سواء كان تبليغاً أو كتماناً، فقد يؤمرون بتبليغ شيء مثل الرسائل التي أمروا بتبليغها: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، وقد يأمرون بكتمان شيءٍ مما يدخل في الإخبار عن المستقبل والغيوب، وقد يكون فتنةً على الناس.
وكذلك التبليغ فهو صفةٌ من صفاتهم وإن كان من الصفات الداخلة في الأمانة؛ لأن من الأمانة أن تبلغ الرسالة، والتبليغ الذي يجب على الرسل هو أن يبلغوا عن الله سبحانه وتعالى ما تقوم به الحجة، فلو لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم حكماً إلا إلى شخص واحد، لكنه ظن به أنه يمكن أن يبلغه لغيره أو أنه سيبلغه لغيره، فذلك كافٍ في تبليغه، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد في تبليغ بعض رسالات ربه على الأفراد، ككتبه التي أرسلها إلى الملوك بواسطة رسل من الأفراد كـ عبد الله بن حذافة بن قيس إلى هرقل وكـ دحية الكلبي إلى عظيم مصر، وكـ عمرو بن العاص إلى ابني الجلندا وهكذا.
ونحو هذا ما رواه عنه الآحاد مما حدثهم به، فإنهم بلغوه ونُقل إلى الأمة، ولهذا فإن ما يبلغه عن الله سبحانه وتعالى من الرسالة محفوظ كحفظ القرآن.
والذين يستشكلون ضياع كثير من كتب السنة وفواتها، وأنها معدومة اليوم أو نادرة أو غير مروية، يرد على استشكالهم أنها ليس فيها ما تحتاج إليه الأمة؛ لأن ما تحتاج إليه الأمة من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون قد بلغها، ولذلك تكفي دواوين الإسلام المشهورة وما ليس مروياً فيها مما يعتمد عليه كثير من الناس، هو من تتبع الشواذ ومن التكلف المنهي عنه، فلهذا يفرح الواحد اليوم من طلبة العلم عندما يجد صحيفة منسوبة إلى عصرٍ مضى فيها بعض الأحاديث غير المشهورة وغير الموجودة، أو يؤخذ منها بعض الأحكام الشاذة النادرة، ومثل هذا من اتباع المتشابهات الذي وصف الله به الذين في قلوبهم زيغ.
فالذي تحتاجه الأمة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظه الله عليها ولم يكن ليضيعها، ولهذا فإن محمد بن سعيد المصلوب وهو من مشاهير الذين وضعوا الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه الخليفة ليقتله، قال: لئن صلبتموني فلقد تركت فيكم أربعة آلاف حديث مكذوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أحل فيها الحرام وأحرم فيها الحلال، فقال له الخليفة: أين أنت من عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك ينقران عنها حتى يخرجانها، فدعاهما فسألهما عن هذا الرجل هل يعرفانه؟ فقالا: نعم.
قد حدث عن فلان بالحديث الفلاني وكان كاذباً في ذلك، حتى عدا أربعة آلاف حديث يتتبعانها، ولذلك يقول أهل الحديث: لو هم الرجل بالصين ذات ليلة أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لأصبح الناس في بغداد يقولون: فلان كذاب وضّاع، ولذلك لما قيل لـ يحيى بن سعيد القطان: قد كثرت الموضوعات، قال: يعيش لها الجهابذة.