وهؤلاء الرسل مختلفٌ فيما يشترط لهم، فقد اتفق العلماء على أن العصمة صفةٌ من صفات الرسل ويجب اعتقادها في حقهم، ولكن اختلفوا في تحديد العصمة، فحددها بعضهم بمنع الخطأ من الكفر والكبائر قبل الرسالة ومنع الخطأ مطلقاً بعد الرسالة.
وحدد آخرون بأن المقصود بها: منع الخطأ بعد الرسالة فقط، وأما قبل الرسالة فلا مانع من الشرك والكفر والكبائر.
وذهب جمهور أهل السنة إلى أن المقصود: العصمة من الوقوع في الخطأ في التبليغ عن الله، والعصمة من الإقرار على الخطأ فيما عدا ذلك، ففيما يبلغونه عن الله سبحانه وتعالى يجب لهم العصمة قطعاً؛ لأنهم لا يمكن أن يكون تبليغهم ما بلغوه عن الله خطأً وغلطاً، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]، فلابد أن يكون ما بلغوه عن الله صدقاً.
وعدم القول بعصمتهم في ذلك يقتضي نسبة الكذب لله سبحانه وتعالى؛ لأن مصدق الكاذب كاذبٌ والله تعالى قد صدقهم بالمعجزات، فلو جاز في حقهم الوقوع في الكذب في التبليغ عن الله سبحانه وتعالى لكان هو قد صدقهم في كذبهم.
فبعض العلماء يقسم هذه الصفة إلى قسمين فيفرق بين الصدق والعصمة، فيعد صفات الرسل يقول: منها الصدق والعصمة والأمانة والتبليغ والرفعة، فيعُد الصفات أكثر وينوعها.
والمقصود بالصدق، الصدق في الأقوال والصدق في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، وفيما بلغوه عنه، ولا شك أن الحاجة داعية إلى عصمتهم بعد رسالتهم من الوقوع فيما لا يرضيه؛ لأن ذلك يقتضي تناقضاً، فنحن مأمورون باتباعهم فيما عملوه؛ لأن أعمالهم تشريع ما لم يرد الدليل بخصوصها بهم، وإذا كنا منهيين عنها مأمورين بها فهذا تناقض مستحيل شرعاً، فوجب أن يعصموا من الوقوع في الخطأ.
والخطأ هنا مختلف فيه، فقيل: هو الشرك والكبائر، وقيل: يشمل الصغائر أيضاً، ويشكل على القول الأخير دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، وقد كان يستغفر في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2]، وقد اختلف المفسرون في معنى هذه الآية، فقالت طائفة منهم: المقصود بذلك المغفرة السابقة على اجتبائه، حيث إنه ولد مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولله أن يفعل ذلك.
وقالت طائفة: بل المقصود أنه يقع في الصغائر والأمور التي هي في حقه ذنوباً، لكن إذا قيس بها غيره كانت في بعض الأحيان طاعات؛ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وقد لامه الله سبحانه وتعالى في كتابه على بعض الأمور؛ وذلك دليل على صحة وقوع الاجتهاد منه، وأنه متعبد بالاجتهاد قبل نزول الوحي إليه، ولا يعارض ذلك إرجاؤه للبت في بعض الأمور انتظاراً للوحي كقصة الإفك التي انتظر فيها الوحي، وكقصة الثلاثة الذين خلفوا فقد أرجأ أمرهم خمسين ليلةً انتظاراً للوحي، وكإجابة اليهود حين سألوه عن الروح، وغير ذلك من الأسئلة التي يرجئ الجواب عنها حتى ينزل إليه الوحي.
وقد اجتهد في أمور لامه الله فيها، فمنها ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة كقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، وكذلك قوله تعالى في قصة أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]، وكذلك قوله تعالى في قصة الإيلاء: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1 - 1]، وكذلك في قصة ابن أم مكتوم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]، وكذلك في قصة زيد بن حارثة بن شراحيل وزينب بنت جحش بن ذئاب أنزل الله سبحانه وتعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] ونحو هذا.
فهذا عتاب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم قُرن بالمغفرة والعفو، بل بدئ بالعفو في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، وعلى هذا فالأمور التي اجتهد فيها وليست مما أمر بتبليغه يمكن أن يقع منه الخطأ فيها، لكن لا يُقر على ذلك الخطأ ولابد أن يبين له ما أخطأ فيه، هذا معنى الصدق والعصمة.