حَدَّثَتْنِي ظَبْيَةُ مَوْلاةُ فَاطِمَةَ بَنْتِ عُمَرَ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَتْ: " خَرَجْتُ أَنَا وَدَهْيَةُ مَوْلاةُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ إِلَى مَسْجِدِ الْفَتْحِ، فَوَجَدْنَا فِيهِ ابْنَ جُنْدُبٍ قَدْ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ خَرَجَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْ عَمُّ.
فَقَالَ:
وَإِذَا دَعَوْنَكَ عَمَّهُنَّ فَإِنَّهُ ... نَسَبٌ يَزِيدُكَ عِنْدَهُنَّ خَبَالا
قَالَتْ: وَأَطْلَعْتُ لَهُ يَدِي، وَقُلْتُ لَهُ: هَذَا الَّذِي قُلْتُ: يَمْشِي إِلَى مَسْجِدِ الأَحْزَابِ مُخْتَضِبَا فَقَالَتْ لِي صَاحِبَتِي: أَطْمَعْتِهِ فِي الدُّنْيَا وَاللَّهِ فِينَا.
قُلْتُ لَهَا: إِنَّمَا يُطْمَعُ فِي أَهْلِ الشَّرِّ.
قَالَتْ: فَصَلَّيْنَا ثُمَّ خَرَجْنَا، فَوَجَدْنَاهُ قَدْ عَرَّضَ يَدَيْهِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ:
أَيُّ مَنْ يَجْمَعُ الْمَوَاسِمَ أَنْتُم ... حَدِّثِينَا حَقًّا وَلا تَكْذِبِينَا
قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ:
نَحْنُ مِنْ سَاكِنِي الْعِرَاقِ وَكُنَّا ... قَبْلَهَا قَاطِنِينَ مَكَّةَ حِينَا
قَالَ: أَلا تَجْلِسْنَ تُحَدِّثْنَ وَنُحَدْثُكُنَّ، كَمَا قَالَ:
رَطْبُ السُّؤَالِ لَهُ نَعْلانِ مِنْ بَقَرٍ ... حُلْوُ الْمُزَاحَةِ مَعْسُولُ الأَمَاثِيلَ
قَالَتْ: فَأَبَيْنَا فَذَهَبْنَا
حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: لَمَّا كَانَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ اسْتَشَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ الْحَكَمِيَّ فِي الْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَمُنَاجَزَةِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ وَالَيْتَ بَيْنَ عَامَيْنِ تَغْزُوهُمَا، وَقَدْ خَسِرتَ خَيْلَكَ وَرِجَالَكَ، وَعَامُكَ هَذَا عَامُ جَدْبٍ، فَأَرِحْ نَفْسَكَ وَجَسَدَكَ، ثُمَّ تَرَى رَأْيَكَ.
قَالَ: إِنِّي أُبَادِرُ ثَلاثَةَ أَشْيَاءَ: الشَّامُ أَرْضٌ الْمَالُ بِهَا قَلِيلٌ، وَأَخَافُ أَنْ يَنْفِدَ مَا مَعِي، وَأَشْرَافُ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَدْ كَتَبُوا إِلَيَّ يَدْعُونَنِي إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ كَلا وَلا.
وَثَلاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ كَبُرُوا، وَنَفِدَتْ أَعْمَارُهُمْ، فَأَنَا أُبَادِرُ بِهِمِ الْمَوْتَ، أُحِبُّ أَنْ يَحْضُروا مَعِي.
ثُمَّ دَعَا يَحْيَى بْنَ الْحَكَمِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَمْرًا فَلْيُشَاوِرْ يَحْيَى، فَإِذَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ فَلْيَعْمَلْ بِخِلافِهِ.
فَقَالَ: يَا يَحْيَى، مَا تَرَى فِي الْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ؟ قَالَ: أَرَى أنْ تَرْضَى بِالشَّامِ، وَتُقُيمَ بِهَا، وَتَدَعَ مُصْعَبًا وَالْعِرَاقَ، فَلَعَنَ اللَّهُ الْعِرَاقَ.
فَضَحِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَدَعَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ فَشَاوَرَهُ.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ غَزَوْتَ مَرَّةً فَنَصَرَكَ اللَّهُ، ثُمَّ غَزَوْتَ الثَّانِيَةَ فَزَادَكَ اللَّهُ عِزًّا، فَأَقِمْ عَامَكَ هَذَا.
فَقَالَ لِمُحَمِّدِ بْنِ مَرْوَانَ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يَنْصُرَكَ اللَّهُ، أَقَمْتَ أَمْ غَزَوْتَ، فَاغْزُ عَدُوَّكَ وَشَمِّرْ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ.
فَأَمَرَ النَّاسَ، فَاسْتَعَدُّوا لِلْمَسِيرِ، فَلَمَّا أَجْمَعَ قَالَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ يَزِيدَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجِّهِ الْجُنُودَ، وَأَقِمْ فَلَيْسَ مِنَ الرَّأْي أنْ يُبَاشِرَ الْخَلِيفَةُ الْحَرْبَ بِنَفْسِهِ، قَالَ: لَوْ وَجَّهْتُ أَهْلَ الشَّامِ كُلَّهُمْ، فَعَلِمَ مُصْعَبٌ أَنِّي لَسْتُ مَعَهُمْ، لَهَلَكَ الْجَيْشُ كُلُّهُ، وَتَمَثَّلَ:
وَمُسْتَخْبِرٌ عَنَّا يُرِيدُ بِنَا الرَّدَى ... وَمُسْتَخْبِرَاتٌ وَالْعُيونُ سَوَاكِبُ