حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مِسْكِينٍ، قَالَ: " كَانَتْ سَفَّانَةُ بِنْتُ حَاتِمٍ مِنْ أَجْوَدِ نِسَاءِ الْعَرَبِ، وَكَانَ أَبُوهَا يُعْطِيهَا الصِّرْمَةَ مِنْ إِبِلِهِ، فَتَهَبُهَا وَتُعْطِيهَا النَّاسَ، فَقَالَ حَاتِمٌ: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّ السَّخِيَّيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي مَالٍ أَتْلَفَاهُ، فَإِمَّا أَنْ أُعْطِيَ وَتَبْخَلِينَ، وَإِمَّا أَنْ تُعْطِي وَأَبْخَلُ، فَإِنَّهُ لا يَبْقَى عَلَى هَذَا شَيْءٌ.
وَكَانَ أَبُو جُبَيْلٍ، وَهُوَ عَبْدُ قَيْسِ بْنُ خَفَّافِ الْبُرْجُمِيُّ، أَتَى حَاتِمًا فِي دِمَاءٍ حَمَلَهَا عَنْ قَوْمِهِ، أَسْلَمُوهُ فِيهَا، وَعَجَزَ عَنْ أَدَائِهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ مَنْ يَحْمِلُهَا عَنِّي، وَكَانَ شَاعِرًا شَرِيفًا، فَأَتَى حَاتِمًا فَقَالَ لَهُ: قَدْ كَانَ بَيْنَ قَوْمِي دِمَاءٌ، فَتَوَاكَلُوهَا، وَإِنِّي حَمَلْتُهَا فِي مَالِي وَإِبِلِي، فَقَدَّمْتُ مَالِي، وَكُنْتَ أَمَلِي، فَإِنْ تَحْمِلْهَا، فَرُبَّ حَقٍّ قَدْ قَضَيْتَهُ، وَهُمٍّ قَدْ كَفَيْتَهُ، وَإِنْ حَالَ دُونَ ذَلِكَ حَائِلٌ، لَمْ أَذُمَّ يَوْمَكَ، وَلَمْ آيَسْ مِنَ غَدِكَ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
حَمَلْتُ دِمَاءً لِلْبَرَاجِمِ جَمَّةً ... فَجِئْتُكَ لَمَّا أَسْلَمَتْنِي الْبَرَاجِمُ
وَقَالُوا سِفَاهًا: لِمَ حَمَلْتَ دِمَاءَنَا ... فَقُلْتُ لَهُمْ: يَكْفِي الْحَمَالَةُ حَاتِمٌ
مَتَى آتِهِ فَيِهَا يَقُلْ لِيَ مَرْحَبًا ... وَأَهْلا وَسَهْلا أَخَطَأَتْكَ الأَشَائِمُ
فَيَحْمِلُهَا عَنِّي وَإِنْ شِئْتُ زَادَنِي ... زِيَادَةَ مَنْ حَلَّتْ إِلَيْهِ الْمَكَارِمُ
يَعِيشُ النَّدَى مَا عَاشَ حَاتِمُ طَيِّئٍ وَإِنْ مَاتَ قَامْتَ لِلسَّخَاءِ مَآتِمُ
يُنَادِينَ مَاتَ الْجُودُ مَعْكَ فَلا تَرَى ... لَهُ مُجِيبًا مَا دَامَ لِلسَّيْفِ قَائِمُ
وَقَالَ رِجَالٌ أَنْهَبَ الْجُودُ مَالَهُ ... إِذَا خَلَّفَ الْمَالَ الْحُقُوقُ اللَّوَازِمُ
فَيُعْطِي الَّتِي فِيهَا الْغَنِيَّ كَأَنَّهُ ... لَتَصْغِيرِهِ تِلْكَ الْعَطِيَّةَ جَارِمُ
بِذَلِكَ أَوْصَاهُ عَدِيٌّ وَحَشْرَجٌ ... وَسَعْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَتِلْكَ الْقَمَاقِمُ
فَقَالَ لَهُ حَاتِمٌ: إِنِّي كُنْتُ لَأُحِبُّ أنْ يَأْتِيَنِي مِثْلُكَ مِنْ قَوْمِكَ، هَذَا مِرْبَاعِي مِنَ الْغَارَةِ عَلَى تَمِيمٍ، فَإِنْ وَفَتِ الْحَمَالَةَ، وَإِلا كَمَّلْتُهَا لَكَ، وَهِيَ مِائَتَا بَعِيرٍ سِوَى بَنِيِّهَا، وَفِصَالِهَا، مَعَ أَنِّي لَأُحِبُّ أَنْ لا تُؤْيِسَ قَوْمَكَ بِأَمْوَالِهِمْ، فَضَحِكَ أَبُو جُبَيْلٍ، ثُمَّ قَالَ: لَكُمْ مَا أَخَذْتُمْ مِنَّا وَلَنَا مَا أَخَذْنَا مِنْكُمْ، وَأَيُّمَا بَعِيرٍ دَفَعْتَهُ إِلَيَّ وَلَيْسَ لَهُ ذَنَبٌ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، فَأَنْتَ مِنْهُ بَرِيٌّ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، وَزَادَهُ مِائَةً، وَانْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ حَاتِمٌ:
أَتَانِي الْبُرْجُمِيُّ أَبُو جُبَيْلٍ ... لَهَمٍّ فِي حَمَالَتِهِ طَوِيلِ
فَقُلْتُ لَهُ خُذِ الْمِرْبَاعَ دَهْرًا ... فَإِنِّي لَسْتُ أَرْضَى بِالْقَلِيلِ
عَلَى حَالٍ وَلا عَوَّدْتُ نَفْسِي ... عَلَى عَلاتِهَا عِلَلَ الْبَخِيلِ
فَخُذْهَا إِنَّهَا مِائَتَا بَعِيرٍ ... سِوَى النَّابِ الرَّدِيَّةِ وَالْفَصِيلِ
وَلا مَنٌّ عَلَيْكَ بِهَا فَإِنِّي ... رَأَيْتُ الْمَنَّ يُزْرِي بِالْجَمِيلِ
فَقَامَ الْبُرْجُمِيُّ وَمَا عَلَيْهِ ... مِنْ أَعْبَاءِ الْحَمَالَةِ مِنْ قَتِيلِ
يَجُرُّ الذَّيْلَ يَنْفُضُ مِذْرَوَيْهِ ... خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ حَمْلٍ ثَقِيلِ