ثُمَّ دَعَتْهُ نَفْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى تَزَوُّجِهَا، وَحَلَّتْ بِقَلْبِهِ، وَمَاتَتِ امْرَأَتُهُ، فَزَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا، فَمَكَثَ عِنْدَهَا زَمَانًا، وَابْنُ عَمٍّ لِحَاتِمٍ يُقَالُ لَهُ: مَالِكٌ، قَالَ لَهَا: يَا هَذِهِ مَا تَصْنَعِينَ بِحَاتِمٍ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ مَلَكَ لَيُتْلِفَنَّ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ لَيَتَكَلَّفَنَّ، وَلِئِنْ مَاتَ لَيِتْرُكَنَّ وَلَدَكِ كَلًّا عَلَيْكِ وَعِيَالا عَلَى قَوْمِكِ، وَأَنَا لَكِ نَاصِحٌ مُشْفِقٌ، وَلَكِ مُحِبٌّ وَامِقٌ، فَطَلِّقِي، فَأَنَا أَتَزَوَّجُ بِكِ، وَأَنَا خَيْرٌ لَكِ مِنْ حَاتِمٍ، لِأَنِّي أَكْثَرُ مِنْهُ مَالا، وَأَحْسَنُ مِنْهُ حَالا، وَأَنَا أَمْسَكُ عَلَيْكِ وَعَلَى وَلَدِكَ مَا لَهُمْ، وَتَعِيشِينَ مَعِي عَيْشًا رَغْدًا، فَمَالِي لَكِ وَأَنَا قَعِيدٌ لَكِ.
فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى طَلَّقَتْ حَاتِمًا، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتَ، وَإِنَّ حَاتِمًا لَكَمَا ذَكَرْتَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَكُنَّ النِّسَاءُ هُنَّ اللَّوَاتِي يُطَلِّقْنَ الرِّجَالِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانَ طَلاقُهُنَّ، إِنْ كُنَّ فِي بُيُوتٍ مِنْ شَعْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، حَوَّلَنَّ بَابَهُ، فَإِذَا كَانَ بَابُهُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ حَوَّلْنَهُ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ حَوَّلْنَهُ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ حَوَّلْنَهُ إِلَى قِبَلِ الشَّامِ، فَإِذَا جَاءَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ وَرَأَى ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهَا طَلَّقَتْهُ، فَيَدَعُ غِشْيَانَهَا، وَكَانَتْ مَاوِيَّةُ مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ زَمَانِهَا، فَأَتَاهَا حَاتِمٌ فَوَجَدَهَا قَدْ حَوَّلَتْ خِبَاءَهَا فَأَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهَا، فَهَبَطَ حَاتِمٌ إِلَى بَطْنِ وادٍ مِنَ الأَوْدِيَةِ فَنَزَلَ بِهِ، وَاغْتَمَّ لِذَلكِ غَمًّا شَدِيدًا، وَلَمْ تَتَهَيَّأْ لَهُ حِيَلَةٌ فِيهَا.
وَدَخَلَ بِهَا مَالِكٌ، وَجَاءَ قَوْمٌ سَفَرٌ فَنَزَلُوا عَلَى بَابِ الْخِبَاءِ، كَمَا كَانُوا يَنْزِلُونَ كَعَادَاتِهِمْ بِحَاتِمٍ، فَمَا زَالَ قَوْمٌ يَنْزِلُونَ بَعْدَ قَوْمٍ حَتَّى تَوَافَوْا قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ رَجُلا، فَضَاقَتْ بِهْمُ مَاوِيَّةُ ذَرْعًا، فَقَالَتْ لَجَارِيَتِهَا: اذْهَبِي إِلَى ابْنِ عَمِّي مَالِكٍ، فَقُولِي لَهُ، إِنَّ أَضْيَافًا لِحَاتِمٍ قَدْ نَزَلُوا بِنَا، وَهُمْ فِي عِدَادِ خَمْسِينَ رَجُلا، فَأَرْسِلْ إِلَيْنَا بِنَابٍ نَقْرِهِمْ وَلَبَنٍ نَغْبِقْهُمْ.
وَالنَّابُ: الْمُسِنَّةُ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْغَبُوقُ: شُرْبُ اللَّبْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ.
وَقَالَتْ لِجَارِيَتَها: انْظُرِي إِلَى جَبِينِهِ وَفَمِهِ، فَإِنْ بَادَرَكِ بِالْقَوْلِ: أَيْ نَعَمْ فَأَقْبَلِي مِنْهُ، وَإِنْ ضَرَبَ بِلِحْيَتِهِ عَلَى زَوْرِهِ، أَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِهِ، فَاقْبَلِي وَدَعِيهِ.
قَوْلُهُ لِحْيَتُهُ عَلَى زُورُهُ: الْمَعْنَى إِنْ نَكَّسَ رَأْسَهُ وَضَرَبَ بِذَقْنِهِ عَلَى صَدْرِهِ.
فَأَتَتِ الْجَارِيَةُ مَالِكًا فَوَجَدَتْهُ مُتَوَسِّدًا وَطَبًا مِنَ اللَّبَنِ، وَتَحْتَ بَطْنِهِ وَطَبٌ آخرَ، وَهُوَ نَائِمٌ فَأَنْبَهَتْهُ، وَبَلَّغَتْهُ الرِّسَالَةَ فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى رَأْسِهِ، فَحَكَّ رَأْسَهَ بِيِدِهِ، وَنَكَّسَ رَأَسَهُ مُفَكِّرًا، فَقَالَتْ لَهُ الْجَارِيَةُ: إِنَّمَا هِيَ اللَّيْلَةُ حَتَّى تُعْلِمَ النَّاسَ بِمَكانِ حَاتِمٍ، وَيَبْلُغَهُمْ حَالُهُ.