«هـ» وربما كان ذلك، أيضا، لأن النخوة العربية، في بيئة قبلية، من عادتها أن تثور للمظلوم، الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع! وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم .. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عارا على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته ... وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب، بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة .. بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي!
«و» وربما كان ذلك أيضا، لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة. حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة. أو بلغت أخبارها متناثرة حيث كانت القبائل تقف على الحياد، من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف .. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة. ولم يقم في الأرض للإسلام نظام، ولا وجد له كيان واقعي .. وهو دين جاء ليكون منهج حياة، وليكون نظاما واقعيا عمليا للحياة.
«ز» في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبار ات كلها، والأمر بالقتال ودفع الأذى. لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائما - وقتها - ومحققا .. هذا الأمر الأساسي هو «وجود الدعوة» .. وجودها في شخص الداعية - صلى الله عليه وسلم - وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم، إذا هي امتدت يدها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان شخص الداعية من ثم محميا حماية كافية .. وكان الداعية يبلغ دعوته - إذن - في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي، ولا يكتمها، ولا يخفيها، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها، في ندوات قريش في الكعبة، ومن فوق جبل الصفا وفي اجتماعات عامة .. ولا يجرؤ أحد على سد فمه ولا يجرؤ أحد على خطفه