على من يلوذون به. ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به، محورا لحياة في نظره، ودافع الحركة في حياته .. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج. ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته .. وتربيته على أن يتبع مجتمعا منظما له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره - مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي، لإنشاء «المجتمع المسلم» الخاضع لقيادة موجهة المترقي المتحضر، غير الهمجي أو القبلي.
«ب» وربما كان ذلك أيضا، لأن الدعوة السلمية أشد أثرا وأنفذ، في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه الفترة - إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة، كثارات العرب المعروفة، التي أثارت حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس - أعواما طويلة، تفانت فيها قبائل برمتها - وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام. فلا تهدأ بعد ذلك أبدا. ويتحول الإسلام من دعوة، إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية، وهو في مبدئه، فلا تذكر أبدا!
«ج» وربما كان ذلك أيضا، اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت. فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم. إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد، يعذبونه هم ويفتنونه و «يؤدبونه»! ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت .. ثم يقال: هذا هو الإسلام! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال!
فقد كانت دعاية قريش في الموسم، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة: إن محمدا يفرق بين الوالد وولده فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي .. في كل بيت وكل محلة؟
«د» وربما كان ذلك أيضا، لما يعلمه اللّه من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم ويؤذونهم هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته .. ألم يكن عمر ابن الخطاب من بين هؤلاء؟!