وقد كان في هذا الانقطاع مكافأة أخرى؛ إذ كان مُغترباً لي وملجأ ألوذ به من واقع فاسد مفسد، واقع بئيس، ابتلينا به وقُدِّر علينا أن نعيشه مقهورين، قدّر علينا أن نعيش هذا الزمان الذي نرى أمتنا تتحرك على المحندر بعد أن تمزقت دولاً متناحرة، ووصل الأمر أن حاضر الأمة -بعد أن ضل عن معرفة أعدائها- راح يشتبك مع ماضيها بحثاً عن ذرائع تبرر ما نحن فيه من هوان، فصرنا نستدعي رموزَ أمتنا وعظماءَ تاريخنا لنحاسبهم، فنجلدهم، ونركلهم، ونصفعهم، ثم نقتلهم سحلاً، واستشرى هذا الداء حتى عمّ وطمّ، فوجدنا من يلمز أول الخلفاء الراشدين واصفاً إياه بالديكتاتورية.!! واغوثاه!! ثم واغوثاه!!

...

ومما يجب أن أذكره أن كثيراً من أبنائي وتلاميذي -وقد أحسنوا الظن بي- كانوا يغْشَون مجلسنا راغبين في تلقي العلم على طريقة الأسلاف. ولكن هموم العيش، وواجبات الوقت، ووعورة الطريق، وبُعد الشقة، أعجزهم عن الاستمرار -ولا ألومهم- فانصرفوا إلى الدراسة الرسمية، ومنهم من حصل فعلاً على الدكتوراة، وبعضهم في الطريق.

ولكن واحداً منهم استطاع أن يقهر كلّ الشواغل، ويدفع كل الصوارف، فشرح الله صدره، وأنار قلبه، فدامت صحبتُه لنا سنوات مباركات تزيد على العشر، وفي كل يوم يزداد حباً للعلم، وعشقاً للدرس، حتى صار الدأب في البحث طبعَه، والرغبة في استقصاء المسائل عادتَه.

ولما رأيته قد استوى عوده، واستقام أُملُوده، جعلت أقول له: يا بني يكفيك هذا معي، ابحث عن دراسة رسمية تنال بها (شهادة)، فالعصر عصر الشهادات، فكان لا يزيد عن أن يقول -في تواضع- " أريد أن أتعلم، أين أنا من العلم!! ".

ذلكم هو ابني الحبيب وتلميذي النجيب:

الأستاذ علي حسن الحمادي

ومن عجب أن دراسته في أصلها (البكالوريوس) ليست في العلم الشرعي،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015