الثاني - والسبب الثاني في بسط هذه القضية هنا هو إظهار خطورتها، والتنبيه لآثارها؟ إبراء للذمة، وإعذاراً إلى الله تعالى، آملاً أن يَنْهَدَ لهذا الأمر من شباب العلماء والباحثين من يحقق الأمل، ويكمل العمل.
نعم، انقطعتُ لإمام الحرمين وكتابه عن كل هذه المجالات، أو بالأحرى صرفني الله عنها، فقد كانت متاحة ميسورة، مدَّ اليد، فتركناها -بعد أن ذقنا حلاوتها- عن قُدرةٍ عليها، ورغبة فيها، وذلك لا يكون إلا بفضلٍ من الله وعونه؟ فله سبحانه
الفضل والمنة.
كنت أقول لمن يدعوني للمشاركة في هذا العمل أو ذاك: إن إمام الحرمين يجالسني، ويراوحني ويغاديني، وهو أمامي على المكتب يأخذ على يدي إن هي امتدت لغير كتابه، كنت أستشعر هذا المعنى حقيقةً، فما كنت أغادر مكتبي إلا مضطراً لأداء واجب عزاءٍ أو نحوه، وكنت أعود مسرعاً، وكأني أقدّم للإمام عذري.
ومضت السنون وتطاولت الأعوام، وطال العمل واستطال، وأنا صابرٌ جَلْد، غيرُ ضجرٍ ولا ملول، بل مستمتع مسرور، ومَنْ حولي يعجبون، وعن الكتاب يتساءلون: كل هاتيك الأعوام في كتاب واحد؟؟ {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 52] "لا يعرف الشوق إلا من يكابده".
تجاوزت الأعوام الخمسَ والعشرين عدّاً وأنا في صحبة إمام الحرمين، أعطيه ويعطيني: أعطيه وقتي وجهدي، وصبري واتئادي، وتأملي وأناتي، وحبي وعشقي، وشغفي وهيامي.
ويعطيني كل يومٍ جديداً، يمنحني فرائد من الفقه، ودقائق من الأصول، وأوابد من النحو، ونوادر من اللغة، وشوارد من الحديث؛ ويطوف بي مرابع، ومجالس ومدارسَ، أسمع فيها من أعلام أمتي وأئمتها.