ونحن نسأل من يأبى إلا المزايدة على تلك المسألة: هل استمرّ الاجتهاد المطلق في علوم السنّة إلى اليوم؟ أم انتهى عند عصر من العصور. فإن قال إنه مُستمرٌّ إلى اليوم، سألناه عن آلات الاجتهاد المطلق، وهل تحقّقت في أحدٍ من أهل هذا العصر، بل فيمن قبلهم بقرون؟!!! وإن قال إنه ينتهي في العصر الفلاني أو الفلاني، قلنا له: ولمَ لا يكون قبله أو بعده؟ أرّخْ لنا علوم السنة مبيّناً لنا كيف قُلتَ بهذا القول، ثمّ يُمكن لغيرك أن يرفع عليك عصاً كنتَ قد رفعتها على من سواك، هي المزايدة على إجلال العلماء وتقديرهم ممّن جاؤوا بعد العصر الذي اخترته.
إن اعتبار علماء القرن الخامس ممن نقصت فيهم أهليّة الاجتهاد في علوم السنة عن درجة الاجتهاد المطلق ليس رأياً مبتدعاً، ولا هو بالقول العريّ عن الدليل، فقد سبق الاستدلال له، وسيأتي مزيد تقرير له. وأمّا كونه ليس رأياً مبتدعاً، فقد سبق إليه عالمٌ كبير، حيث ذكر رأيه في هذه المسألة، واختلفت فُهُوم العلماء لها. أعني ابن الصلاح (رحمه الله) ورأيه في مسألة التصحيح والتضعيف لأهل الأعصار المتأخّرة.
ولن أدخل غمار هذه المسألة هنا، ولكني أريد أن أقرّر تقسيم ابن الصلاح كما يراه هو.
فلقد قسّم ابن الصلاح العلماء إلى قسمين مختلفي الأعصار: فعلماء الأعصار الأولى هم الذين يحق لهم الاستقلال بالحكم على الأحاديث (أسانيد ومتوناً) ؛ لاكتمال آلة الاجتهاد فيهم. وعلماء الأمصار المتأخّرة هم الذين لا يحق لهم ذلك الاستقلال بالحكم؛ لنقص أهليتهم عن هذه الرتبة (?) .
ولا أُريد هنا مناقشة هذا الرأي، تأييداً أو ردًّا، ولكني أريد أن أستثمره في معرفة الحدّ الذي اعتبره ابن الصلاح بداية الأعصار المتأخّرة التي لا يحق لعلمائها الاستقلال بالحكم على الحديث لنقص أهليّتهم.