وهذه الحاجة المُلْجِئةُ إلى استمرار حفظ الصدور، للقيام بهذه الخدمة للسنة، كانت إحدى دواعي استمرار ذلك الحفظ، الذي هو آلة الاجتهاد المطلق في نَقْدِ الحديث.

ولنَقْصِ هذه الآلة عند المتأخّرين منع ابنُ الصلاح المتأخرين من الاستقلال بالحكم على الحديث بالضعف، لمجرّد ضعف السند، لاحتمال وجود متابعةٍ لم يقفوا عليها؛ إلا إنْ حَكَمَ أحدُ أئمة الحديث بغرابة ذلك السند (?) .

بل يُصرّح السيوطي بالمسألة نصًّا عليها، فيقول متحدّثاً عن المتأخرين: ((وينبغي التوقُّفُ عن الحكم بالفرديّة والغرابة؛ لاحتمالِ طريقٍ آخر لم يقف عليه، وعن العِزّة أكثر؛ لضيق شرطها)) (?) .

إذن فحاجة تمييز الغرائب، التي لا يقوم بها إلا حُفّاظ الصدور الحفظَ الواسع كانت هي إحدى أسباب استمرار علماء القرن الرابع على أن تبقى آلةُ الاجتهادِ في الحديث مكتملةً فيهم.

- وفي مجال نقد الحديث: لئن ورث هذا القرنُ منهجاً مكتملاً في النقد، إلا أن هذا المنهج المكتمل في القرن الثالث، لم توجد مصنّفاتٌ تستوعبُ كُلّ أحكامه على الأحاديث والرواة.

فمثلاً: قمةُ المنهج النقدي، التي هي تمييز الصحيح من السقيم، هل استوعبت جميعَ الأحاديث الصحيحة في مدوّنات القرن الثالث؟ لاشكَّ أنها ليست كذلك. وليس أدلّ على ذلك ممّا جاء في اسم كتابي البخاري ومسلم، وهما أجلّ ما أُلف في الصحيح خلال القرن الثالث، من تسميتهما بـ (المختصر) (?)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015