وكذلك لا يختلف اثنان من أهل العلم أن منهج نقد السنة خلال القرن الأول والثاني والثالث كان كافياً لمعرفة صحيح السنة وثابتها وتمييزه عن سقيمها وغير الثابت منها؛ لأن اعتقاد وقوع خلل في منهج النقد في القرن الأول مثلاً، يعني أن الأمّة في ذلك القرن قد ضَلّت دينَ ربِّها، فنسبت إلى وَحْي السنة ما ليس منه، أو ردّت هدايةً من هداية ربِّها.
ولا يعني ذلك أن علوم الحديث (نقلاً ونقداً) لم تمرَّ بمراحل تطوّر خلال قرونها الثلاثة الأولى، ولا أن علوم الحديث في القرن الثالث هي تلك التي وُلدت في القرن الأول. وعلى هذا: فكيف يَلْتَئمُ أن تكون علوم السنة قد مَرّت بمراحل تطوّر، ومع ذلك فهي في كل مرحلةٍ كانت كفيلةً بالحفاظ على السنة وبتمييز صحيحها من سقيمها؟
الجواب عن ذلك: أن انتقال علوم السنة من مرحلة إلى مرحلة لم يكن بسبب قصور فيها في المرحلة الأولى عن القيام بواجب الحفاظ على السنة، ولكن لأن عواملَ جديدةً طرأت في المرحلة الثانية تستلزم تطوّراً في العلم. فالتطور لم يكن لنقص العلم قبل تطوّره، وإنما لحدوث أمرٍ لم يكن موجوداً يقتضي ذلك التطوّر. فتجدُّدُ ضروريات، وحدوث حاجيّات، وبروز أخطار لم تكن موجودة كل ذلك هو الذي كان يجعل السنة تنتقل من مرحلة إلى مرحلةٍ، حيث إن علماء السنة كانوا يبادرون إلى استحداث وسائل في التعلُّمِ والتعليم وفي التعامُل مع العلم تحقّقُ لهم تحصيلَ تلك الضروريات، وتلبية الحاجيات، ودَفْع هاتيك الأخطار.