وقد قال في الباب السادس (العدالة والضبط) بعد أن ذكر وجوب التحقق من عدالة الراوي والأمانة في خبره، (ومما يذكر مع فريد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا الباب، وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحروفه وحذافيره تنويهاً بتدقيقهم العلمي، واعترافاً بفضلهم على التاريخ، ثم آخذ في نقل نصوص عن الإمام مالك، والإمام مسلم صاحب الصحيح والغزالي والقاضي عياض وأبي عمرو بن الصلاح) (?) .
ولكن هذه الجهود الضخمة الجبارة التي أذعنت لسطوتها أعناق وجباه العلماء ممن ذكرنا آنفاً لا تجد من يواكبها ويجاريها بذات النفس في عصرنا الحديث إلا القليل النادر.
فحق لنا أن ننشد:
ذهب الذين يقال عند فراقهم…ليت البلاد بأهلها تتصدع
وقد شغلت بهذا الأمر حيناً من الدهر، وطرحناه مذاكرة مع أهل العلم ومناقشة مع طلابه وكما أسلفت كنا بصدد كتابة تعليقات في الذكرى المائة لكتاب الإمام القاسمي نتناول بعض ما نراه سبباً أو أسباباً لتراجع الدراسات الحديثية على كثرة الطارقين لبابها. ثم من بعد ذلك الحلول، فنقول والله الموفق إن من أسباب ذلك في ما نراه الآتي:
الافتقار إلى حسن الترتيب والتقسيم:
هناك ناحيتان يتأثر بهما نسق التأليف وتتميز بهما منهجية الكتابة والتدوين في أي فن من الفنون وهما:
أـ المدة الزمنية بين نشوء قواعد العلم إلى حين نضجه واستوائه على سوقه، فإن أي علم يبدأ بقواعد صغيرة ومتباعدة ثم لا يزال العلماء يكتبون ويصححون وينقحون ويجمعون بين الأشباه والنظائر حتى تتكامل قواعد ذلك الفن في حدود اجتهاد العقل الإنساني.
ب ـ وأما الناحية الثانية فهي المجتمع الفكري والعلمي الذي يستهدفه المصنف بتصنيفه، ومن ثم تتباين المصنفات إيجازاً وإسهاباً، تعقيداً وتبسيطاً.