لقد ذكرنا سابقاً أن أسلوب التصنيف على (المسانيد) راعَى حاجة المرفوعات خاصّة للحفظ من الضياع، لأن الأحاديث المرفوعة هي أولى الأخبار بالنقل والحفاظ عليها، بل هي أساس علوم السنّة وأصلها. فلمّا قام العلماء بجمعها، نظر بعضُ أهل العلم في هذه الأحاديث المرفوعة، هل فيها ما هو أولى من بعضها بمزيد عناية؟ ولاشك أن ما ارتبط به عمل منها أولى بالجمع ومحاولة تيسير الاطلاع عليه، ألا وهو أحاديث الأحكام التي تُسْتَنْبَطُ منها مسائل الفقه والحلال والحرام. وهذا ما جعل أسلوب التصنيف على منهج كتب (السنن) يبرز أيضاً في منتصف هذا القرن، متميّزاً بسعة مؤلفاته، وباقتصارها على الأحاديث المرفوعة، مرتّبةً على أبواب الفقه.
وأوّل من بادر إلى هذا النوع الجديد من التصنيف هو أبو داود السجستاني في كتابه السنن، الذي قال عنه في (رسالته إلى أهل مكة) : ((ولا أعرف أحداً جمع على الاستقصاء غيري)) (?) .
وقال أبو داود متحدّثاً عن موضوع كتابه:)) ولم أصنّف في كتاب السنن إلا الأحكامَ، ولم أصنف [فيه] كتب الزهد وفضائل الأعمال وغيرها، فهذه الأربعة آلاف والثمانمائة كُلّها في الأحكام. فأمّا أحاديث كثيرةٌ صحاحٌ في الزهد والفضائل وغيرها من غير هذا فلم أخرّجها (?) ((.
ولم يقف مظهر إبداع كتاب السنن لأبي داود عند هذا الحدّ، ولم يكن جانبُ خدمته للمرحلة التي تمرّ بها السنة في زمنه منتهياً عند العناية بأحاديث الأحكام فقط، بل تجاوزَ ذلك إلى تحقيق حاجتين اثنتين:
الأولى: العناية بإبراز ما كان حجّةً أو صالحاً للاحتجاج أو للاعتبار، والتنبيه على بعض ما احتجّ به بعضُ الفقهاء من الشديد الضعف (?) .