وقد أدّت تلك الجوامع الكبار دَوْرها، وأثمرت ثمارها، وأينعت في منتصف هذا القرن، بأن ابتدأت أنظار العلماء تَلْتَفِتُ إلى شيءٍ آخر سوى الجمع، مما يشهد إلى أن الشعور بخوف ضياع شيءٍ من السنّة قد زال أو كاد، وهذا ما جعل العلماء يتّجهون إلى وجوهٍ جديدةٍ في خدمة تدوين السنّة، لا يقتصر في خدمته على مجرّد الجمع، بل يستثمر الجمع السابق للوصول إلى هدف آخر وغايةٍ أبعد.

والخدمة المتوقّعة بعد ذلك الجمع الذي لم يَعْتَنِ بتمييز الصحيح من السقيم؛ لأن الذين قاموا به كانوا يعتبرون الجمع الموسَّع في تلك المرحلة هو الأولى بالتحقيق هو أن يُعتنى بتمييز الصحيح من السقيم، بل هذا هو الذي كان يجب أن يقوم به العلماء فعلاً بعد اكتمال الجمع؛ حيث إن هذا الجمع لن يؤدِّي هدفه الأخير بغير بيان ما يصلح منه للعمل والاحتجاج مما لا يصلح لذلك. وهذا ما سبق إليه الإمام البخاري، في كتابه (الصحيح) ، بإشارة من أحد شيوخه (أحد أصحاب الجوامع الكبار) وهو إسحاق بن راهويه (?) .

إن مجرّدَ إقبال البخاري على مثل ذلك الإبداع، وفي كتابٍ يسمه بالمختصر ليدلّ على اتّضاح ملامح المرحلة التي تمرّ بها السنة عنده، وأنها قد أصبحت محتاجةً إلى مبادرة تقوم بتكميل جهود الجمع السابقة، بإخراج كتاب مختصر خاصٍّ بالأحاديث الصحيحة.

ولاشك أن البخاري لم يكن ليفكّر بهذا العمل لو كان هاجس ضياع السنة مُسْتَولياً على تفكيره، بل لم يكن ليقدر عليه (حتى لو فكّر فيه) لو لم تقم الجهود السابقة بضرورة جمع السنة.

ثم إن مسلماً تبع البخاريَّ في جمع كتاب مختصر في الصحيح، سائراً على خُطى شيخه في تحقيق الهدف نفسه.

فإذا أردنا الانتقال إلى وجه آخر من وجوه التصنيف المستحدثة في منتصف هذا القرن، أقدِّمُ ذلك ببيان الوجه الجديد من الخدمة الذي كانت السنة محتاجةً إليه في هذه المرحلة، بعد جهود الجمع السابقة الكبيرة التي قامت بواجب حفظ السنة من الضياع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015