إن هذا التمييز والانتقاء الراجعَ إلى درجة القبول أو الردّ، له من الدلالة على واقع المرحلة التي مَرّت بها السنة في هذه الفترة، كالدلالة التي استنبطناها من تصنيف البخاري لصحيحه.
الثانية: لمّا كان غرضُ أبي داود الأكبر هو بيان أصلح الأحاديث للاحتجاج بها في مسائل الأحكام، وحيث إنه لم يسبقه أحدٌ إلى مثل استقصائه في جمع هذا النوع من الأحاديث، وحيث إن الأحاديث منها ما هو مشهورٌ تتابع الرواة على نقله وما هو غريبٌ تفرّد بروايته آحَادٌ منهم، وحيث إن المشهور هو الأقرب إلى الصحّة والأقوم بالحُجّة على الخصوم لذلك كُلّه خَصَّ أبو داود المشاهير من أحاديث الأحكام بالجمع دون الغرائب؛ لأنها هي الأولى بالجمع، لكونها الأقرب إلى صحّة الاحتجاج بها.
يقول أبو داود في (رسالته إلى أهل مكة) : ((والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئاً من الحديث، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس. والفخر أنها مشاهير ... )) (?) .
فهنا يذكر أبو داود أنه تَعمَّدَ أن لا يعتني بالغرائب، مع أن الغرائب أشهى عند المحدّثين من المشاهير التي (هي عند كل من كتب شيئاً من الحديث) ؛ لأنّ جمعاً القَصْدُ منه إفادةُ الفقهاء ما يصلح للاحتجاج، وهو أوّلُ جمعٍ مُسْتَقْصٍ لا يليق به أن ينساق وراء شهوة الإغراب، بل يحق لمن عَمَدَ إلى مثل هذا الجمع لذلك الغرض أن يقول: ((والفخر أنها مشاهير)) .
وفي عصر أبي داود صنّف الترمذي جامعه، وابن ماجه سننه، وبعدهما النسائي سننه الكبرى والصغرى، وغيرهم كثير.