لقد دخل القرن الهجري الثالث بعد جهودٍ عظيمةٍ متتابعة من علماء الأُمّة في تدوين السنة وجمعها، وفي نَقْدها (تعليلاً وجرحاً وتعديلاً) ، وتلقّى تلك العلوم الجليلة بقوّة وإقبال منقطعي النظير. ولذلك فإن الحديث عن هذا القرن وعن جهوده في خدمة السنة لا تقوم بها مقالة، ولا أيّ بحث أو كتاب، بل هو حقيقٌ ببحوث وكُتُب!! إن كل إمامٍ من أئمة هذا القرن لهو بحدّ ذاته مدرسةٌ عظمى (وما أكثر الأئمة في هذا القرن!!!) يجب على الدارسين لعلوم السنة أن يقيموا البحوث والدراسات حول منهجه وأثره على علوم السنة. غير أني في هذا المقال سألمس بعض الجوانب التي تبرزُ في هذا القرن جهودَ علمائه في تكميل جهود علماء القرنين السابقين له، حتى بلغ علماء هذا القرن بعلم الحديث القمّة السامقة، التي لا يُمكن أن يزاد على منهجها في النقل والنقد.

أمّا في مجال تدوين السنة، فهذا عصر أصول السنة العظام وأمهات المصنفات فيها، ففيه أُلّفت الكتب الستة وما يلتحق بها من مصادر السنة الأساسيّة. ولئن بدأ هذا القرن بالتصنيف على الطريقة السابقة، طريقة المسانيد والكتب الجامعة للأحاديث والآثار، كـ (المسند) لأحمد، وإسحاق، وابن أبي شيبة وابن أبي عمر العدني وغيرها (كما سبق عن الحافظ ابن حجر) ، وكمصنف ابن أبي شيبة، وسنن سعيد بن منصور. إلا أن منحى التكميل في هذه المصنفات يظهر من كونها أعظم شمولاً واتساعاً من الكتب السابقة على طريقتها في التصنيف؛ لأنه قُدِّر لمؤلّفيها أن يستفيدوا من الجهود السابقة، ليقوموا بتحقيق هدف الذين سبقوهم، وهو تقييد تلك الأحاديث والآثار خوفاً عليها من التفلّت وتيسيراً للباحثين عن السنّة عناءَ تجميع السنة من رواتها في أقطار الأرض، تلك المهمة الشاقّة التي استطاع غيرهم أن يسبقهم إلى أدائها والقيام بها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015