الأمر الثاني المتعلّق بمبحث التدليس: فإنّ القاعدة التي اشتهرت عند المتأخرين وتواضعوا عليها هي أنّ حديث المدلّس يقبل إذا صرّح بالسماع. أمّا إذا روى بالصيغة الموهمة فإنّ حديثه يكون ضعيفا، ولكنّ الباحث في هذا الأمر يلحظ في كلام المتقدّمين أمثلة تخرم هذه القاعدة وتعود بالأمر من جديد إلى ملاحظة القرائن والأحوال.
وأسوق لذلك مثالين:
1 ـ لقد ذكر الإمام أبو حاتم الرازي أنّ بقيةَ بنَ الوليد كان يروي عن شيوخ ما لم يسمعه منهم، فيظنّ أصحابه أنّه سمعه منهم، فيروون عنه تلك الأحاديث ويصرّحون بسماعه لها منهم، ولا يضبطون ذلك (?) .
وهذا في الحقيقة لو حاكمناه إلى قواعد المتأخرين لاعتبرناه كذباً، بناءً على أنّ المدلّس إذا صرّح بالتحديث فيما لم يسمعه فإنّه يكون كذاباً، يردّ حديثه جملة وتفصيلا، ولكن الكذب هنا لا ينسب لبقية، فليس هو الذي فعل ذلك، ولا ينسب أيضا إلى أصحابه لأنّهم كذلك لم يفعلوا ذلك عمدا، وإنّما كان ذلك على سبيل الخطأ وعدم الضبط، والله أعلم.
2 ـ مثال آخر يؤكّد هذه المسألة ويزيدها وضوحا:
لقد ذكروا للإمام أحمد قولَ من قال: عن عراك بن مالك، سمعت عائشة. فقال: هذا خطأ، وأنكره، وقال: عراك من أين سمع من عائشة؟ إنّما يروي عن عروة عن عائشة (?) .
فهذا الإسناد فيه تصريح بالسماع وهو محض خطأ.
ولذلك قال الإمام ابن رجب تعليقا على هذه الأمثلة التي ذكرناها: ((فحينئذ ينبغي التفطّن لهذه الأمور، ولا يغترّ بمجرّد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد)) (?) .