وقد نبّه الإمام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا الأمر، وبيّن خطره على السنة. فقد ذكر أن بعض المتأخرين عمدوا إلى أحاديث هي خطأ عند بعض الأئمّة المتقدمين فصححها هؤلاء المتأخرون ثم عارضوا بها النصوص الثابتة فاحتاجوا إلى الجمع بينها فجاؤوا بأوجهٍ مستنكرة في الجمع بين هذه النصوص.
2 ـ ومن الأمثلة على هذا أيضا ما عقده المتأخرون في أبواب المتابعات والشواهد. فإنّ القاعدة عندهم أنّ تعدّد الطرق ينفع في تقوية الحديث الضعيف، ولم يشترطوا في ذلك إلاّ التفريق بين الضعف الشديد والخفيف، والشديد عندهم ما كان سببه فسق الراوي أو كذبه أو اتهامه بالكذب، فهذا لا ينفع معه تعدّد الطرق. أما الضعف الخفيف الذي يكون ناشئا من سوء حفظ الراوي أو وَهَمِه أو غفلته أو اختلاطه أو انقطاع إسناد الحديث، فهذا النوع من الضعف ونحوه يزول بتعدّد الطرق، ويرتفع الحديث إلى درجة الاحتجاج.
وقد كنت أثناء تدريسي مادة مصطلح الحديث للطلاب أقف عند هذه النقطة طويلا، وتنتابني حيرة لا أستطيع إخفاءها عنهم، ثمّ أخلص معهم إلى أنّ الذي يحصل به الاطمئنان في هذه المسألة ـ احتراما لقواعد المتأخرين ـ هو ألا نكتفي في تقوية الحديث بطريقين أو ثلاث، وإنّما لا بدّ أن تكثر طرق الحديث كثرة بالغة تورث الظنّ الغالب بقوّة الحديث، إذ ليس من المقبول والمعقول أن يستدلّ في تقرير مسألة من مسائل العقيدة أو حكم من أحكام الشريعة بحديث له طريقان أو ثلاث لا تسلم جميعا من الضعف الخفيف، لا سيما إذا كان لم يرد عن المتقدّمين ما يفيد تصحيحه، وأولى من ذلك إذا ورد عنهم ما يقتضي الطعن فيه.
ثم اقتنعت بعد ذلك أنّ كثرة الطرق أو قلّتها ليست هي المدار في ذلك، وإنّما المدار هو القرائن والأحوال التي تحتفّ بهذا الحديث فتقتضي تقويته بهذه الطرق، أو تقتضي أن تكون هذه الطرق سببا في توهين الحديث أكثر إذا كشفت عن علل أخرى في الحديث، أو كانت في النهاية ترجع إلى طريق واحد.