وبسبب هذا نشأ عند المتأخرين جملة من الآراء المخالفة بسبب محاكمة أقوال المتقدّمين إلى قواعد المتأخرين، فصرنا نجد البعض يصحّح ما تكلّم فيه المتقدّمون، بل فيها ما صرّحوا ببطلانه أصلا.
وإذا تمعنّا في هذا الأمر جيدا، فإنّ المسألة عند ذلك لاتصبح مجرّد قضية اختلاف في الاجتهاد في تطبيق قواعد معلومة عند الجميع، وإنّما يصبح الأمر في الحقيقة اختلافا في المنهج، فعندما يعرض المتأخر لحديث تكلّم فيه المتقدّمون بسبب أنّ راويه الثقة تفرّد به ولم يروه غيره، مع أنّه لا مخالفة فيه لما روى غيره من الثقات، فهنا يبادر المتأخر إلى تطبيق قاعدته: هذا ثقة لا يضرّ تفرّده، وتكون النتيجة أن يردّ قول المتقدّمين ويقرّر صحّة الحديث، فإنّ في هذا إغفالا لمنهج المتقدمين الذين تقرّر أنّهم لا يحكمون على راو بحكم واحد في جميع أحاديثه، فقد يقبلون تفرّده ـ ولو خالف ـ وقد يعتبرون تفرّده علّة يردّون بها حديثه هذا دون غيره من الأحاديث.
إنّ تفرّد الراوي عند المتقدمين يعتبر شبهة: أن يكون الراوي قد أخطأ في حديثه رغم كونه ثقة، وهنا يتجلى الخلاف المنهجي بين المتقدّمين والمتأخرين. فالمتقدّمون ينظرون عند الحكم على حديث إلى نفس الحديث لا إلى راويه. فإذا ظهر لهم من خلال قرائن معيّنة أنّ الراوي أخطأ في هذا الحديث أو قامت عندهم شبهة قوية في ذلك ردّوا حديثه هذا، بغض النظر عن كون الراوي ثقة أو غير ثقة.
أمّا المتأخرون فإنّهم تبعا لقواعدهم التي وضعوها وألفاظ الجرح والتعديل التي قعّدوها لا ينظرون إلى الحديث، بل إلى راويه، فإذا ثبت عندهم أنّه ثقة، لم يضرّه بعد ذلك ما يتفرّد به من الأحاديث، إذا سلمت من المخالفة.