فها أنت ترى إلى كلام هؤلاء الأعلام كيف يؤكدون ضرورة الوقوف عند كلام المتقدمين وفهمه وعدم تجاوزه أو محاكمته إلى قواعد من جاؤوا بعدهم، وأنّ المتأخرين مهما بلغوا من العلم فلن ينهض علمهم لرد ما قرّره المتقدمون، خاصة فيما يتعلق بأحوال الرواة وما يطرأ على أحاديثهم من العلل الخفية.
وهؤلاء الأئمة المتقدمون هم الذين كانوا في زمن لم تكن قد دوّنت فيه القواعد والمصطلحات بالصورة التي هي عليها اليوم، ولكنَّ هؤلاء الأعلامَ كانت لهم قواعدهم ومصطلحاتهم التي يعرفونها ويطبقونها على الروايات والرواة.
الملامح العامة لمنهج المتأخرين:
نأتي الآن إلى المتأخرين وبيان بعض ما يميّز منهجهم:
جاء المتأخرون فورثوا عن المتقدّمين علما غزيرا وأقوالا كثيرة في الرواة والروايات، وكان لابدّ من وضع قواعد تحكم هذه الأقوال الكثيرة، وكان عملهم اجتهاديا محضا، لذلك كان من الطبيعي أن يقع بينهم الخلاف في تفسير كلام المتقدّمين أو فهمه، ثمّ في القواعد التي وضعوها لضبطه، ومن هنا بدأ التحوّل الكبير.
فإذا تذكرنا ما سطّرناه سابقا ونقلناه عن علماء هذا الشأن من أنّ أقوال المتقدّمين كان أكثرها نسبيا يدور مع القرائن والأحوال، فإنّه يصبح من الصعوبة وضع تعاريف جامعة مانعة وضوابط محددة لذلك، وقد أدى هذا كلّه إلى محاكمة أقوال المتقدّمين إلى قواعد المتأخرين، وبالتالي تصويبها أو تخطئتها، بناء على انسجامها مع هذه القواعد أو مخالفتها لها.
1 ـ فمن الأمثلة القريبة التي يمكن ذكرها في ذلك: القاعدة التي اشتهرت عند المتأخرين وهي أنّ زيادة الثقة مقبولة بشرط عدم الشذوذ، وهذه القاعدة طردها المتأخرون ـ والمعاصرون أيضا ـ في جميع الرواة. فإذا عثروا على تضعيف من المتقدّمين لراو بسبب تفرّده ـ والحال أنّه لم يخالف ـ لم يجدوا بدّا من توهين هذا القول، وردِّ الأمر إلى القاعدة التي وضعوها، وهي أنّ زيادة الراوي الثقة مقبولة، ولا يضرّه تفرّده.