ويحسن بنا أن نطرّز هذه المعاني التي ذكرناها بهذه المقولة الجامعة للإمام أبي الوليد الباجي الأندلسي المشهور، يقول رحمه الله في تأكيد هذه الحقائق السابقة وبيان ما كان عليه المتقدّمون من النظر الدقيق والفحص الخاص واختلاف العبارات في الحكم على الرواة: ((واعلم أنّه قد يقول المعدِّل: فلان ثقة، ولا يريد به أنّه ممّن يحتجّ بحديثه. ويقول: فلان لا بأس به، ويريد أنّه يحتجّ بحديثه، وإنّما ذلك على حسب ما هو فيه، ووجه السؤال له. فقد يسأل عن الرجل الفاضل في دينه، المتوسّط في حديثه، فيقرن بالضعفاء، فيقال: ما تقول في فلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد أنّه ليس من نمط من قُرِن به، وأنّه ثقة بالإضافة إلى غيره. وقد يسأل عنه على غير هذا الوجه فيقول: لا بأس به، فإذا قيل: أهو ثقة؟ قال: الثقة غير هذا ... فهذا كلّه يدلّ على أنّ ألفاظهم في ذلك تصدر على حسب السؤال، وتختلف بحسب ذلك، وتكون بحسب إضافة المسؤول عنهم بعضهم إلى بعض. وقد يحكم بالجَرْحَة على الرجل بمعنى لو وجد في غيره لم يجرّح به لما شُهِر من فضله وعلمه وأنّ حاله يحتمل مِثلَ ذلك ... فعلى هذا يَحمِل ألفاظَ الجرح والتعديل مَنْ فَهِم أقوالَهم وأغراضَهم، ولا يكون ذلك إلا لمَن كان مِنْ أهل الصناعة والعلم بهذا الشأن. وأما من لم يعلم ذلك، وليس عنده من أحوال المحدّثين إلا ما يأخذه من ألفاظ أهل الجرح والتعديل ـ للتذكير فإنّ الباجي ولد سنة 403هـ، وتوفي سنة 474هـ، فما عسانا نحن أن نقول!!؟ ـ فإنّه لا يمكنه تنزيلُ الألفاظ هذا التنزيلَ، ولا اعتبارُها بشيء مما ذكرنا، وإنّما يتَّبِع في ذلك ظاهرَ ألفاظهم فيما وقع الاتفاق عليه، ويقف عند اختلافهم، واختلاف عباراتهم)) (?) .