قال ابن رجب بعد أن أورد هذه الرواية: ((ومعنى هذا أن الرجل إذا جمع بين حديث جماعة وساق الحديث سياقة واحدة فالظاهر أن لفظهم لم يتفق، فلم يقبل هذا الجمع إلا من حافظ متقن لحديثه يعرف اتفاق شيوخه واختلافهم، كما كان الزهري يجمع بين شيوخ له في حديث الإفك وغيره)) (?) .
فالاعتبار في الحكم على الراوي عند المتقدمين من خلال هذه الأمثلة وغيرها تابع للقرائن والأحوال.
قال الإمام ابن كثير ـ وهو من المتأخرين ـ يتكلّم عن منهج المتكلمين في باب الجرح والتعديل: ((والواقف على عبارات القوم يفهم مقاصدهم بما عرف من عباراتهم في غالب الأحوال، وبقرائن ترشد إلى ذلك)) (?) .
وهذا في الحقيقة تأكيد واضح على الفرق بين المتقدمين والمتأخرين، ليس فقط من الناحية النظرية، وإنّما أيضا من الناحية التطبيقية، حيث لم يعد في مقدور المتأخرين أن يحيطوا بأحوال الرواة، بعد أن آل الأمر إلى النظر في الكتب وتعذّر الاطلاع على العلل الخفية التي لا تدرك غالبا إلاّ بالملاحظة الميدانية والفحص الدقيق والنظر الثاقب والتجربة الطويلة.
هذه باختصار أهمّ مرتكزات منهجهم وملامحه العامة، وأما ما ورد عنهم من اختلاف أو تباين فقد كان ضمن هذا المنهج وفي إطار تطبيق مفرداته.
ثناء المتأخرين على منهج المتقدمين:
وهذا الذي نقوله عن منهج المتقدمين هو الذي سطره المتأخرون واعترفوا به وأبانوا عن عجزهم في اللحاق بهؤلاء، وأوضحوا أنّ منهجهم لم يعد يشبه منهج المتقدمين. ورحم الله الإمام عبد الله بن المبارك، فقد كان إذا ذكر أخلاق من سلف أنشد:
لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمُقْعَد