ومن هذا ما قاله الإمام أحمد في شيخه الإمام عبد الرزاق الصنعاني الذي قطع المفاوز وفارق الديار وتحمّل المشاق من أجل السماع عنه في صنعاء اليمن، ولكنه مع ذلك لم يكن حاطبَ ليل في حديثه عنه، بل كان يميّز بين أحاديثه، ويغربلها، ويصدر فيها أحكامه الدقيقة. قال عنه بصدد الحديث عن قيمة أحاديثه في آخر عمره:)) عبد الرزاق لا يُعبأ بحديث من سمع منه وقد ذهب بصره، كان يُلقّن أحاديث باطلة، وقد حدّث عن الزهري أحاديث كتبناها من أصل كتابه وهو ينظر جاءوا بخلافها ((.
بل لقد حدّد الإمام أحمد سنة المائتين حدا للتمييز بين أحاديثه التي تقبل والتي لا تقبل، فمن سمع منه بعد المائتين فحديثه ضعيف.
ومن الخامسة: ما حدّث به من حفظه أو من كتابه: سويد بن سعيد الحَدَثاني.
قال أبو زرعة:)) أما كتبه فصحاح، كنت أتتبع أصوله وأكتب منها، فأما إذا حدّث من حفظه فلا ((.
فانظر إلى هذه الدقة العجيبة من هؤلاء الأعلام. وهذه المسألة لا يمكن إدراكها إلا ممن يعيش مع الراوي ويتلقى عنه ويحدد الطريقة التي حدّث بها، هل كان ذلك من حفظه أو من كتابه، وهذا أمر لا يتيسّر أبدا للمتأخرين، فضلا عن أن ينال منه شيئا من جاء بعدهم بقرون وقرون.
ومن السادسة: أن يفعل خلال روايته وإسناده ما يبعث الشك في روايته: ومن ذلك ما ذكره أبو يعلى الخليلي، قال: ((ذاكرت يوما بعض الحفاظ فقلت: البخاري لم يُخَرِّج عن حماد بن سلمة في الصحيح وهو زاهد ثقة. فقال: لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس، فيقول: حدثنا قتادة وثابت وعبد العزيز بن صهيب، وربما يخالف في بعض ذلك. فقلت: أليس ابنُ وهب اتفقوا عليه وهو يجمع بين أسانيد، فيقول حدثنا مالك وعمرو بن الحارث والليث بن سعد والأوزاعي بأحاديث ويجمع بين جماعة غيرهم؟. فقال: ابن وهب أتقن لما يرويه وأحفظ له (?) ((.