ولذلك فإنّ الملاحظ أنّ أحكام المتقدمين على الرواة هي أحكام نسبية وليست مطلقة، يعني أنّه إذا قال شعبة بن الحجاج أو غيره في راو إنّه ثقة أو ضعيف فهو ليس حكما مطلقا يُوجِب قبولَ جميع مروياته أو ردَّها، بل يكون هذا الحكم خاصا بحالة معينة أو بشيخ معين أو ظرف خاص أو حديث بعينه، فيضعفون من حديثه ما يرونه أخطأ فيه ولو كان ثقة، ويصححون من حديث الضعيف ما يرونه قد ضبطه. ويبقى سائر حديثه خاضعا للنظر والتدقيق.
ولعلّ هذا يفسّر لنا بجلاء تعارضَ ألفاظ الجرح والتعديل عن الإمام الواحد، كيحيى بن معين مثلا، وكتابه (التاريخ) حافل بهذه الأمثلة.
ولذلك سلك المتأخرون في سبيل إزالة هذا التعارض مسالك عدّة، كان منها أنّ الإمام يقول ذلك بحسب طبيعة السؤال الذي وجّه إليه. فقد يكون السؤال عن الراوي مجردا، فيكون الجواب أنّه ثقة، أو أنّه ضعيف، ولكن إذا كان السؤال عن الراوي بالنسبة لمن هو أعلى منه درجة وأرفع منه منزلة وأوثق منه مرتبة فيكون الجواب أنّه ضعيف. أو يكون السؤال عنه بالنسبة لمن هو دونه في الدرجة فيكون الجواب أنّه ثقة، مع أنّه في حقيقة الأمر دون تلك المرتبة بكثير.
ومن الأمثلة على ذلك ما أورده عثمان بن سعيد الدارمي، فقد سأل يحيى بن معين عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، فقال يحيى: ليس به بأس. فقال له عثمان: هو أحب إليك أو سعيد المقبري؟ فقال يحيى: ((سعيد أوثق والعلاء ضعيف)) (?) . ولفظ (ليس به بأس) من ألفاظ التوثيق عند ابن معين، كما هو معروف.
قال الإمام اللكنوي بمناسبة كلامه على قول ابن معين في العلاء بن عبد الرحمن: ((وعليه يحمل ـ أي على هذا التأويل الذي ذكرناه سابقاـ أكثر ما ورد من اختلاف أئمة الجرح والتعديل، ممّن وثّق رجلا في وقت، وجرحه في وقت آخر)) (?) .