3 ـ من أهمّ ما كان يميز منهج المتقدمين أنّهم لم يكونوا يلتزمون قاعدة مطّردة في الحكم على الراوي أو الرواية. بل لهم في ذلك نظرات وأحكام مختلفة لا تنسجم في معظمها مع قواعد المتأخرين، بل تقوم على اعتبار القرائن والأحوال، فلا يحكمون على راو بالتوثيق دائما، ولا على آخر بالضعف في كل الأحوال، وليس لهم قاعدة واحدة عند تعارض الوصل والإرسال، ولا عند تعارض الرفع والوقف، ولا عند حصول الزيادة في الحديث أو النقصان، سواء من الراوي الواحد أو منه ومن غيره، بل كلّ ذلك خاضع للقرائن، فقد يحكمون على زيادة ثقة بالردّ رغم أنّه ليس فيها مخالفة لما رواه غيره. وقد يحكمون عند تعارض الوصل والإرسال لمن وصل، أو لمن أرسل ولو كان ضعيفا إذا دلّت القرائن على صواب فعله.
ومن أجل ذلك كثر في منهجهم الانتقاء، يعمدون إلى حديث الراوي، فيأخذون منه ما غلب على ظنّهم أو ترجّح لديهم أنّه أصاب فيه ولم يخطئ، ويتركون من حديثه ما يرونه لم يضبطه، وهذا كثير في تصرفاتهم.
قال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي في تقرير هذه المسألة: ((وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه إنه لا يُتابَع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه)) (?) .