هذه صورة من قضية اختلاف المناهج بين المتقدّمين والمتأخرين في جانب آخر من جوانب الدراسات الشرعية واللغوية ذكرته للتأكيد على أنّ هذه المسألة عامّة، وهي واضحة جلية، ولم أرد الاستيعاب أو التفصيل.
ونعود إلى النقطة الأساسية وهي بيان الملامح العامة التي تميّز كلاّ من منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين.
بالنسبة للمتقدّمين نستطيع أن نحدّد الملامح العامة لمنهجهم فيما يأتي:
1 ـ النظر الدقيق والتفتيش العميق في أحوال الرواة، وقد ساعدهم على ذلك أمران اثنان:
الأمر الأول: قربهم الزمني من الرواة، حيث لم تكن الأسانيد قد طالت كثيرا كما حدث فيما بعد، مما جعلهم يشهدون شهادة حاضر يرى ويسمع.
وأسوق هذه القصة لبيان قيمة كلام المتقدمين في الرجال:
ذكر الإمام المشهور بقي بن مخلد الأندلسي (201هـ ـ 276هـ) أنّه قدم بغداد من الأندلس في طلب العلم وملاقاة الرجال، فلما دخل بغداد مال إلى المسجد الجامع بها، فإذا هو بيحيى بن معين، جالسا في حلقة من العلم يتكلم في الرجال جرحا وتعديلا، قال: ((فسألته عن بعض من لقيت من أهل الحديث، فبعضا زكى، وبعضا جرّح. فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار ـ شيخ البخاري ـ، وكنت قد أكثرت من الأخذ منه، فقال: أبو الوليد هشام بن عمار: صاحب صلاة، دمشقي، ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر أو تقلّد كبرا ما ضرّه شيئا لخيره وفضله)) (?) .
فانظر إلى قيمة هذه الشهادة وهذه التزكية، التي تصدر من رجل يعيش مع الرواة ويلاحظ أحوالهم ويعرف كثيرا من أمورهم التي لا يطلع عليها إلا المعاصر، أين هذا ممن يأتي بعد ذلك، فيجتهد في الحكم على الرواة من خلال الأقوال والنقول التي ينقلها من كتب العلماء أو يجتهد في تفسيرها وتأويلها.
الأمر الثاني: الحفظ الوافر والفهم العميق والإحاطة الشاملة التي فاقت كلّ وصف، وكانت مضرب الأمثال.