ومظهر الاختلاف بين المنهجين أنّ كتابات المتقدمين عموما تتسم بالأصالة وجدّة الابتكار وجزالة الألفاظ وقوة العبارات ومتانة السبك وروعة التحليل البياني للظواهر البلاغية. وبعبارة أخرى: كتاباتهم اللغوية الأدبية تعكس المعاني البلاغية التي يسعون إلى التأصيل لها وتعليمها.
بينما غلب على كتابات المتأخرين جانب التقنين والتنظير والتفريع والتفريق بين الأشباه والنظائر، وطغت عليها المصطلحات المستخلصة من كلام السابقين، دونما اهتمام كبير بأصول البلاغة العربية وفنونها في كتاباتهم، فاكتنفها الجمود وأحاط بها الإلغاز، وصارت أشبه ببعض متون الفقه المختصرة يحتاج قارئها إلى مزيد من الشروح والحواشي لفكّ رموزها وإزالة غموضها.
ولا أدلَّ على ذلك من كتابَيْ: نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز لفخر الدين الرازي، ومفتاح العلوم لأبي يعقوب السكاكي.
وفي هذا المعنى يقول الدكتور عبد العزيز عتيق الذي أرّخ للبلاغة العربية عبر أطوار نشأتها: ((والسكاكي يجيء وسطاً بين عبد القاهر الذي جمع في البلاغة بين العلم والعمل وأمثاله من البلغاء العاملين، وبين المتكلفين من المتأخرين الذين سلكوا بالبلاغة مسلك العلوم النظرية، وفسّروا اصطلاحاتها كما يفسّرون المفردات اللغوية، ثمّ تنافسوا في الاختصار والإيجاز، حتى صارت كتب البلاغة أشبه بالمعميات والألغاز)) (?) .
ويقول في موضع آخر، متحدّثا عن جفاف الفنّ البلاغي وعكوفه على المصطلحات المستحدثة لدى السكاكي: ((وهو في سبيل استنباط القواعد والقوانين قد استخدم المنطق بأصوله وألفاظه وأسلوبه الجاف الذي لا يحوي أيَّ جمال. ولا عجب في ذلك، فقد كان همّه أن يقنّن البلاغة ويقعّدها كسائر العلوم الأخرى، وهذا أمر يستعان عليه بالمنطق)) (?) .