قبل أن أتكلّم عن الملامح العامّة للاختلاف بين المنهجين أوّد أن أشير إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أنّ اختلاف المناهج بين المتقدّمين والمتأخرين ليس أمراً خاصا بعلوم الحديث، بل يوجد نظيره في أغلب علوم الشريعة واللغة. أعني ما كان عليه المتقدمون في جميع فنون العلم والمعرفة مقارنة بما استقرّ عليه الأمر عند المتأخرين.
فإنّ البلاغة مثلا عند المتقدمين اختلفت قواعدها عما استقر عليه منهج المتأخرين. هذا ما قال به أهل الاختصاص في هذا الشأن.
إنّ الذي يكاد يجمع عليه الدارسون لعلوم اللغة العربية وفروعها أنّ الدراسات اللغوية الحديثة تختلف اختلافاً بيّناً عن الدراسات اللغوية القديمة في طرائقها ومناهجها وأساليبها في تناول الظواهر اللغوية بالدرس والتحليل.
فبينما كان الأوّلون يجمعون في دراساتهم التأصيلية للغة، وكتاباتهم اللغوية بين الأصول النظرية وتطبيقاتها العملية، نجد أنّ المتأخرين منهم اكتفوا بالجانب التنظيري التقنيني ـ إذا صحّ هذا التعبير ـ وبذلك جاءت كتاباتهم ورسائلهم جافّة، تقنّن للعلم ولاتعلّمه، تنظّر له ولا تغرس حبّه في النفوس.
ولمزيد من الإيضاح نمثّل لذلك بالدرس البلاغي.
فلا يختلف اثنان على أنّ كتب وكتابات البلاغيين المتقدّمين أمثال الجاحظ وقدامة بن جعفر وأبي هلال العسكري وابن رشيق القيرواني وابن سنان الخفاجي وعبد القاهر الجرجاني والزمخشري في التأصيل للبلاغة العربية وفنونها تسمو إلى العلياء وتناطح الجوزاء شكلا ومضمونا، وهي تختلف اختلافا كبيرا عن كتابات المتأخرين أمثال فخر الدين الرازي وأبي يعقوب السكاكي والخطيب القزويني ومن جاء بعدهم.