وقد نتج عن ذلك كلِّه اضطرابٌ في مناهج المشتغلين بهذه العلوم، وتعدّى هذا الاضطراب حدودَه، وتجاوز قيوده، حتى شكّل في بعض الأحيان حلَبةً يحتدم فيها صراعٌ يكاد يذهب بأخلاق أهل العلم وما يجب أن يكونوا عليه من أدب وما تفرضه عليهم هذه الرحم ـ رحمُ العلم ـ من مودّة وتواضع ولينِ جانب وخفضِ جناح، بل إنّ بعضهم قد حمله ما نحسبه صدقاً وحرصاً على السنّة إلى سلّ سيف لسانه ـ بقسوة وشدّة ـ على من يقفون معه في خندق الدفاع عنها متهِماً إياهم بالابتداع والخروج على منهج السلف، وغيرِ ذلك من الاتهامات التي لا تخفى على من يعيش طرفاً من واقع هذه المناقشات والمساجلات التي نقرأها في الكتب أو نتصفّحها عبر مواقع الانترنت.
وإنّ مِنْ أهمّ الأسباب التي أوجبت هذا الأمرَ وأنتجت هذه المشكلةَ سببين اثنين:
الأوّل: وجود كثير من القضايا الخلافية داخل قواعد علوم الحديث، والتي لم يتمّ الحسم فيها إلى الآن، على غرار ما يقع في علوم الشريعة الأخرى، حيث ما تزال كثير من القضايا ترحّل من زمن إلى زمن، دون أن يُقضى فيها برأي فاصل أو إجماع قاطع، مما يترتب عليه حيرةُ والتباس عند طلاب العلم، الأمرُ الذي يزيد من صعوبة استيعابهم لهذه القواعد، من مثل الاختلاف في مباحث شروط قبول الرواية، ومباحث الجرح والتعديل وألفاظهما ومراتبهما، وغير ذلك من القضايا والمسائل، التي نراها ظاهرة في أغلب مباحث علوم الحديث.
الثاني: اختلاف المنهج بين المتقدّمين والمتأخرين في مجموعة غير قليلة من قواعد علوم الحديث، الأمرُ الذي يترتّب على عدم مراعاته الخلطُ بين المنهجين، ومن ثمّ اختلافُ الآثار والأحكام المترتّبة على تطبيق أحد المنهجين أو محاكمة أحدهما إلى الآخر.
ولا أظنني أبعدتُ النَّجعةَ إذا قلت إنّ السبب الأولَ الذي ذكرته يعتبر نتيجةً لهذا السبب الثاني، فكثير من قضايا علوم الحديث كان يمكن الحسم فيها، لو تمّ مراعاة الفرق بين المنهجين.