واعتنى الكسائيُّ بكتاب سيبويه، فقرَأه، وصحَّحه على أصله، واستفاد منه، وخالَف سيبويه في مسائل كانت هي السَّببَ في الخِلاف الكبير الذي وقع بين البصريِّين والكوفيين في تلك العداوة الشَّديدة التي حَمَلها الكوفيُّون للبصريِّين، ولولا رحلةُ الكسائيِّ بإرشاد الخليل بن أحمد، وكتاب سيبويه، لَبَقِي النَّحوُ في الكوفة (رؤاسيًّا) ضعيفًا، لا قِبَلَ له بالبقاء مع نحو البصرة.
ومات الكسائيُّ سنة 197 بالريِّ في عهد هارون الرَّشيد، وكان يعودُه في مرضه؛ لأنَّه كان مُؤدِّبَ ولدَيْه الأمين والمأمون.
هذا، وكنَّا نودُّ أنْ نَسْتقصي بقيَّة الطبقات من علماء الكوفة النحويِّين ثم نُتبِعُ ذلك بالكلام عن أسباب الخلاف بين المذهبين، وكيف اختلط المذهبان بعد ذلك، ومَن أوَّلُ من جَمع بين المذهبين، لكنا نعتذر عن هذا، وعن الإيجاز الذي اضْطُرِرنا إليه في الكتابة عن أهل الطبقات.
والله الموفِّق لإتمام ذلك وإخراجه على أكمل وجهٍ في كتابنا عن العربيَّة - إن شاء الله - وله الأمر من قبل ومن بعد.
[1] ولا تزال الدلالة على شيءٍ أو معنى بالصوت أو الحركة أو الحرف الواحد مستعملةً معروفةً في لغات القبائل من همج إفريقيا وغيرها، ومن هذا البابِ انتهى الإمامُ أبو الفتح عثمان بن جني إلى القول بأنَّ الحروف تدلُّ على المعاني، وقد عقَد لذلك فُصولاً في كتابيه: "الخصائص"، و"سر العربية"، ونقل عنه من ذلك الباب كثيرٌ.
[2] واعلم أنَّ النابغة يملكُ قوَّة مُدبِّرة مُصرِّفة لا يُقاومها شيءٌ، تغلب الناسَ من أهل عصره أو بعد عَصرِه، على هواهم، وتجري بهم من مَذاهب المعاني والألفاظ والأساليب والعلوم بتصريفٍ عجيب وتدبيرٍ غريب، حتى تصلَ بهم إلى غايةٍ منصوبة، ولا يملك أحدٌ عن ذلك معدلاً ولا محيصًا، فكان عقلُ النابغة من هؤلاء بمنزلة المُوحَى إليهم يُلهِمهم بما يُسِّرَ؛ فلا يجدون بُدًّا من التصرُّف معه إلى غايةٍ لم يكونوا انتهَضُوا لها ولا أرادوها، وتلك هي العلَّة في أنَّ الناس يعتنون برجلٍ منهم كبير العقل صافي النَّفس قوي الأثر؛ حتى يُصبح خطؤه الكبير فوق صَواب الناس، فيَأخُذون به مسلما ثم إذا عُوتِبوا فيه أخَذوا يُولِّدون له كلَّ علَّةٍ من كلِّ شيء ولا يرون في كلِّ علةٍ إلا صوابًا فوق الصواب، وحقًّا يعلو على كلِّ حقٍّ: حتى يأتي العصر الذي يشرق فيه عقلٌ آخَر يزيفُ ما صحَّحوا؛ فيصرفهم عمَّا كانوا فيه من عماية وضَلالٍ، وهذا مرض قديم في العقل الإنساني، لم يبرأ منه مرَّة واحدة على مَدارج التاريخ كلها.
[3] أوَّل مَن نظر في العربية هذا النظر، وشرع في تفصيله والكلام عنه، هو الإمام الجليل أبو الفتح عثمان بن جني، ولكنَّه أدمج القول فيه إدماجا يتعذر معه لطالب هذا العلم أنْ يدرك مبهماته وخوافيه، وأنْ يلقي الشبهات التي تكتنفُ تفكيره جانبًا، ومع هذا فهو أشتات في كتبه لم يجمعها باب قائم بنفسه يكون أهدي للقارئ وأقوم عليه.
[4] وأنت ترى هنا أنَّ الخطأ لم يكن في وضْع حركةٍ من حركات الإعراب في غير موضعها بأنْ نصَب ما يستحقُّ رفعًا أو رفَع ما أمرُه الكسر، بل أخطَأَ سعدُ بن بالويه في منطق حرفٍ من حروف العربيَّة خلط بينه وبين حرفٍ آخَر يُشبِهه، فانظُر إلى قول أبي الأسود بعدُ: "فلو علَّمناهُم الكلام"، ثم التعليق على ذلك بقول الراوي: "فوضَع باب الفاعل والمفعول" فإنَّ سعدًا لم يلحَنْ في إعرابٍ، ولكنَّه لحن في مخرج حرفٍ من الحروف، وذلك لا يكون من جرَّائه أنْ يضع أبو الأسود بابَ الفاعل والمفعول به، إلا أنْ يكون هذا الخطأ من أخطاء كثيرة قبله في أبوابٍ من النحو كانت دواعيَ في صدْر أبي الأسود تُحفِّزه للتفكير في وضْع ضابطٍ للسان قومِه يَقِيهم مزلَّة اللحن، ويتعلَّم به الغريب عن لسانهم كيف ينطقُ الصواب أو كيف يتَّقي الخطأ إذا أوشك أن يقعَ فيه.
¥