[5] روى ابن النديم صاحب "الفهرست" عن محمد بن إسحاق أنَّ رجلاً بمدينة الحديثة اسمه محمد بن الحسين ويُعرف بابن أبي بعرة قد آلَتْ إليه خِزانة صديقٍ له كان مشتهرًا بجمع الخطوط القديمة، قال ابن إسحاق: "فرأيتُها وقلَّبتها فرأيت عجبًا، إلا أنَّ الزمان قد أخلقها وعمل فيها عملاً أدرسها ... "، ثم قال: "ورأيت (عنده) ما يدلُّ على أنَّ النحو عن أبي الأسود ما هذه حِكايته ... وهي أربعة أوراق أحسبها من ورق الصين ترجمتها هذه، فيها كلامٌ في الفاعل والمفعول من أبي الأسود - رحمة الله عليه - بخطِّ يحيى بن يعمر، وتحت هذا الخط بخطٍّ عتيق "هذا خط علان النحوي"، وتحته: "هذا خط النضر بن شميل".
[6] قدَّم سيبويه في كتابه باب المبتدأ والخبر (وهو المسند والمسند إليه) على باب الفاعل والمفعول به، وهذا عِندنا لعلَّةٍ لم نجد أحدًا ذكَرَها ممَّن تقدَّمَنا في هذا العلم؛ وذلك أنَّ سيبويه لما رأى اتِّفاق حالي المسند والمسند إليه في الرفع والاسميَّة واختلاف حالي الفعل مع الفاعل والمفعول به بين الرفع والنصب والفعليَّة والاسميَّة، قدَّم ما اتَّفق على ما اختلف، وهذا صُنْعٌ جيِّد ونظرٌ دَقيق من الإمام الكبير سيبويه.
[7] الدَّائرة في عِلم العَروض هي التي حصَر الخليلُ بها الشُّطور؛ لأنَّه وضَعَها على شكل الدائرة التي هي الحَلْقة، وهي خمسُ دوائر: الأولى فيها ثلاثة أبواب: الطَّويل والمديد والبسيط، والثانية فيها بابان: الوافِرُ والكامل، والثالثة فيها ثلاثة أبواب: الْهَزَج والرَّجَز والرَّمَل، والرابعة فيها ستَّة أبواب: السَّريع والمُنسَرِح، والخفيف، والمضارع، والمقتضب، والمُجتَثُّ، والدائرة الخامسة فيها المتقارِب حَسْب.
[8] وقد رَوى ياقوت في "مُعجَمِه" قال: "قيل ليونس بن حبيب: إنَّ سيبويه قد ألَّف كتابًا في أَلْف ورقة مِن علم الخليل، قال يونس: ومتَى سمع سيبويه هذا كلَّه من الخليل؟ جيئوني بكتابه، فلمَّا نظَر فيه رأى كلَّ ما حكى (عنه) "يعني: ما حَكى سيبويه عن يونس"، فقال: يَجِب أنْ يكون هذا الرَّجلُ قد صدَق عن الخليل في جميع ما حكاه، كما صدَق فيما حكاه عنِّي"، فهنا ترى الدليل على أنَّ أكثر كتاب سيبويه من عِلم الخليل وأدبِه، وهذا هو المعقول؛ لأنَّ سيبويه لَم يُعمَّرْ أكثر من أربعين سنةً، وقد جَمَع في كتابه هذا أصولَ النحو كلَّها، إلاَّ ما ندرَ من شيءٍ، وهذا عملٌ لا يَكادُ يُوفَّقُ إليه رجلٌ وحدَه، إلاَّ مستعينًا برجلٍ قد امتلأ عِلمًا، أو جماعةٍ قد أفرَغوا أنفسهم لِهذا وحدَه، والذي يدلُّ على أنَّ هذا الكتاب من عِلم الخليل، لا من عِلم جماعة: أنَّ الخليل كان إذا تكلَّم في شيءٍ من النحو مِمَّا استنبطَه هو لم يفهمْ ما يقول أحدٌ من نُحاة عصره! وهذا الأخفش النحويُّ الجليل البارع يُحدِّث فيقول: "حضَرْتُ مجلس الخليل، فجاءه سيبويه، فسأله مسألةً، وفسَّرَها له الخليل، فلم أفهمْ ما قالا، فقمتُ وجلست له في الطريق، فقلت: "جعَلنِي الله فداءك! سألتَ الخليل عن مسألةٍ، فلم أفهمْ ما ردَّ عليك، ففهِّمْنِيه فأخبَرَنِي بها، فلم تقعْ لي ولا فَهِمتُها، فقلتُ له: لا تتوهَّمْ أنِّي أسألُكَ إعناتًا، فإنِّي لم أفهَمْها، ولَم تَقعْ لي، فقال لي: ويلك! ومتَى توهَّمتَ أنِّي أتوهَّم أنَّك تُعنِّتُنِي؟ ثُم زجَرَني وتركَنِي، ومضى".
فالخليل كما ترى هو الذي وضع للنَّحو أبوابه وأقسامَه وإصلاحه الَّذي نراه في كتاب سيبويه؛ فإنَّ سيبويه تلميذَ الخليل لَم يأخُذ النَّحو إلاَّ عنه، وزاد على ذلك أنَّ الخليل منَحَه ما وضَع للنَّحو من أبوابٍ وأقسام واصطلاح، حتَّى إنَّ مُعاصِريه الذين أخَذوا النَّحو عن الخليل لَم يفهموا ما كان يدور بينه وبين الخليل من الكلام في النَّحو، وهذا بابٌ عظيم في تحقيق كتاب سيبويه، نستَوفِيه بعدُ في كتابنا عن العربيَّة - إن شاء الله تعالى.
[9] كان للخليل - رحمه الله - راتبٌ على سليمانَ بنِ حبيب بن المُهلِّب بن أبي صُفْرة، وكان والِيَ فارس والأهواز، فكتب سليمانُ إلى الخليل يستَدعِيه، فأجابه الخليل:
أَبْلِغْ سُلَيْمَانَ أَنِّي عَنْهُ فِي سَعَةٍ
وَفِي غِنًى غَيْرَ أَنِّي لَسْتُ ذَا مَالِ
شُحًّا بِنَفْسِيَ .. إِنِّي لاَ أَرَى أَحَدًا
يَمُوتُ هَزْلاً، وَلاَ يَبْقَى عَلَى حَالِ
الرِّزْقُ عَنْ قَدَرٍ؛ لاَ الضَّعْفُ يَنْقُصُهُ
وَلاَ يَزِيدُكَ فِيهِ حَوْلُ مُحْتَالِ
وَالفَقْرُ فِي النَّفْسِ لاَ فِي الْمَالِ نَعْرِفُهُ
وَمِثْلُ ذَاكَ الغِنَى فِي النَّفْسِ لاَ الْمَالِ
فقطع عنه سليمانُ راتِبَه، فقال الخليل:
إِنَّ الَّذِي شَقَّ فَمِي ضَامِنٌ
لِلرِّزْقِ حَتَّى يَتَوَفَّانِي
حَرَمْتَنِي مَالاً قَلِيلاً فَمَا
زَادَكَ فِي مَالِكَ حِرْمَانِي
فبلغَت الأبياتُ سُليمان، فكتب إلى الخليل يَعتذر إليه، وأضعفَ له راتِبَه.
[10] في "معجم الأدباء": ((لأخَذتُ عنه عِلمًا))، ومعنى الحديث على هذه الصُّورة فاسدٌ باطلٌ، وقد بَحَثْنا عن هذا الحديث فلم نَجِدْه، وتوهَّمْنا أن الصواب: ((لأخذت عليه عَيْبًا))؛ ليستقيم المعنَى، وقد ورد مثلُ هذا الحديث في المعنى بشأن أَبِي عُبيدة بنِ الْجَرَّاح، وفيه هذا اللَّفظ.
¥