فهذه من مثل هذا الشيخ الذي كان يدرسنا في مرحلة البكالوريوس وكذلك في مرحلة الماجستير، أحدثت عندي شيئًا من الألم في أن يكون أحد أساتذتي ممن مضى عليه عمر وهو لا يعرف هذه القيمة الكبيرة لهذا التفسير.
أبتدئ هذه المحاضرة بالتنبيه على أهمية هذا الكتاب بالذات، وأن من عرف طريقة القراءة في هذا الكتاب فإنه سيستفيد فائدة عظيمة في فهم التفسير، وطريقة التعامل مع المفسرين.
أما قضية «المنهجية»، فكما تلاحظون أيضًا أن علم التفسير ليس كبعض العلوم التي وُجِدت فيها متون، ووُجِدت فيها ترتيبات، ففي بعض العلوم يتخرج الطالب بمتن، ثم ينتقل إلى متن آخر، ثم ينتقل إلى متن ثالث، وكتب التفسير ـ كما تلاحظون ـ في مُجْمَلِها تكون بين مُطَوَّلة، ومُتَوَسِّطَة، ويقل كثيرًا أن يوجد هناك مختصرًات، وإذا أردت أن تنظر إلى المختصرات التي جُعِلَت لكي تكون بدايات لمن أراد أن يعرف التفسير، ستجد أول كتاب قصَدَ مؤلفه أن يكون كذلك:
كتاب «الوجيز للواحدي»، ولكن حينما تقرأ في هذا الكتاب وتُمَحِّص النظر فيه ستجد أنه لا يُغْنِي حتى للمبتدئ، لأنه أشبه ما يكون أحيانًا بمعاني الكلمات، وبعض الآيات أحيانًا لا يتعرض لها. فلا يكاد يفيد.
والواحدي توفي في القرن الخامس، واستمر الزمن طويلًا ولا يكاد يوجد كتاب يمكن أن يكون عمدة، ويرجع إليه المتخصصون، وإنما كانت طريقة العلماء:
القراءة في هذه المُطَوَّلات والانتخاب منها، كما سأذكر ـ إن شاء الله ـ بعض التفاسير التي كانوا يعملون عليها بالشرح والتعليق.
لما ظهر كتاب الزمخشري (ت: 438) ـ وأنا أريد أن أذكر هذا التاريخ لأنه يهمنا ـ عُنِي العلماء به من جانبين:
- من جانب البلاغة.
- ومن جانب الاعتزال.
فإما أن يدرسُوه ليبينوا ما فيه من البلاغة أو يضيفوا إليه، وإما أن يدرسوه ليردوا عليه اعتزاليته، وأكثر من قرأ هذا الكتاب هم العلماء الأشاعرة، تصدُّوا لهذا الكتاب، وكانوا يقرءونه قراءة فكٍّ وشرح، وليست قراءة عابرة، بل يتناقشون فيه، ويخرجون بعد ذلك بحواشي وتعليقات عليه.
وهو من الكتب التي قد كثرت عليها الحواشي لهذين السببين اللذين ذكرتهما.
فهو أول كتاب قعَّد للبلاغة القرآنية، أما قبله فتكاد تكون مسائل البلاغة القرآنية منثورة نثرًا لكن هذا الكتاب قصد أن يدرس البلاغة القرآنية، فكان له ـ بسبب هذا الجانب ـ اعتبار عند العلماء في أن بدءوا يقرؤونه ويستفيدون منه، ويفرعون عليه، ويضيفون إليه من هذا الجانب.
الجانب الآخر ـ الجانب الاعتقادي ـ وكانت قراءتهم له في مجال الاعتراض والرد، وكما هو معلوم أن علماء الأشاعرة كثيرًا ما تصدوا لعلماء المعتزلة، فكان هذا الكتاب مجالًا من المجالات التي يكون فيها المناقشة والمناقضة في مجال الاعتقاد.
بعده بسنوات ـ يعني في القرن السابع تقريبًا ـ جاء كتاب البَيْضَاوي، والبيضاوي أصولي، وقد أسس كتابه على طريقةٍ قويةٍ في التَّعْبِير، وفيها نوع من ضَبْطِ العبارة، ووفق الله ـ سبحانه وتعالى ـ لهذا الكتاب أن تتبناه الدولة العثمانية، فعلماء الدولة العثمانية تبنوا هذا الكتاب، وجعلوه منهجًا يُدَرِّسُونه، ولهذا كَثُرَتْ حواشي علماء الأتراك على هذا الكتاب، والسبب هو أنه كان منهجًا عندهم، ولهذا قيل ـ وهذه معلومة أنا أذكرها لست متأكدًا منها لكني سمعتها ـ:
أن هناك رتبة في الأستاذية لا تُعطى إلا لمن يشرح تفسير البيضاوي، وبسبب هذا كثرت عليه الحواشي.
ونحن لو تأملنا هذا الكتاب لوجدناه كتابًا صعبًا لا يمكن أن يقرأه الطالب المبتدئ، ومن أراد أن يعرف صعوبة الكتاب يقرأ في بعض الحواشي بينظر كيف كان العلماء يفكون عبارته.
بعده جاء في القرن العاشر كتاب «الجلالين» جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي، ومن باب الفائدة:
جلال الدين السيوطي كتب كتابه وهو في العشرين، وأكمل كتاب شيخه جلال الدين المحلي، المحلي كتب سورة الفاتحة، وكتب من سورة الكهف إلى نهاية القرآن، ثم توفي بعد أن بدأ في الفاتحة، فأكمل السيوطي من البقرة إلى أن انتهى إلى رأس سورة الكهف.
هذا الكتاب أيضًا اعتمده علماء الأزهر في مصر، وصار أيضًا منهجًا تَدْرِيسيًّا، فكثرت أيضًا عليه الحواشي، وهذه أحد أسباب كثرة الحواشي على هذا الكتاب.
¥