ـ[ابو محارب]ــــــــ[22 - 12 - 2008, 09:44 م]ـ
السلام عليكم
دَعَتِ اللُّغويَّات الحديثة - فيما زَعمت - إلى دراسة اللُّغة دراسة موضوعيَّة علميَّة بَحتَة، وَرَوَّجَت -
من وراء هذا الادِّعاء - لمجموعة منَ الأفكار والآراء، منها - على سبيل المثال -
نَفْي القَدَاسة عنِ اللغات، أو بتعبيرٍ آخر نَفْي أن يكونَ للُّغة أيُّ ارتباط عقدي أو ديني أو وجداني بحياة الناس؛ وإنَّما هي ظاهرة علميَّة مُجَرَّدة، أحدثها البَشَر، ومِن ثَمَّ فإن أي دعوة لتجديدها أو تطويرها أو تغيير بعض أو كثير مِن معالمها لا ينبغي أن يكونَ موضع تَحَرُّج من أي نوع
ومن المعلوم لنا جميعًا أنَّ علم اللغة الحديث علمٌ أوروبي، وقد تَوَصَّل إلى ما تَوَصَّل إليه من خلال دراسة اللُّغة اللاَّتينيَّة القديمة، وما تَفَرَّع عنها مِن لغات أوربيَّة حديثة،
وعندما استوردنا نحن العرب - عنِ الأوربيين هذا العلم اللغوي الحديث كما نَستورد عنهم كل شيء، رُحْنا نطبِّق على لغتنا العربيَّة جَميع ما نادَوا به من دون تفكير أو رويَّة، فاعْتقدْنا في لغتنا ما اعتقدوه في لغتهم، وَسَرَى إلينا وَهْم انفصال العربيَّة عن أي جانب ديني أو عقدي أو وجداني، فلم نعد ننظر إليها - كما كان يفعل علماؤنا وفُقَهَاؤنَا - بعَيْن القَدَاسَة والإجلال
أو بعَيْن التَّوقير والإكبار، وَخَفتَ إحساسُنا الدّيني بالعَرَبيَّة، واستَوَتْ عندنا وبقية اللغات؛ بل رجحت عليها - في حياتنا وسلوكنا - لغات؛ كالإنجليزية، والفرنسية ... وغيرهما
لأنها لغات الأمم القوية المتحضّرة
وصرنا بوحي من هذا الوَهم نَتَحَمَّس للعاميات، ونقبل على درسها، وتأصيل جذورها، ونعد ذلك درسًا علميََّا مجردًا، بل نعد العامية - في بعض الأحيان - لغة كالفصحى، بل محترمة مثلها؛ بل قد يكون الاشتغال بها ودرسها والكتابة بها أولى عند قوم منَّا
لأنها اللغة التي يصطنعها الناس في شؤون حياتهم اليَوميَّة، وفتحت الأبواب بعد ذلك للأدب الشَّعبي على مصراعيها، ولم يعد كثيرونَ يرَون حرجًا منَ الكتابة بالعامية، ولم يعد اللحن بالفصحى، وركاكة التعبير بها أو خرق قواعدها يعد عيبًا أو عارًا، فحسب اللغة أن تفهم وتؤدي الغرض على أي شكل كان، وبأيّ ثوب كان.
التَّهوين مِن شأن العَرَبيَّة
وبذلكَ انفَتَحَ باب مِنْ أبواب التَّهوين من قَدَاسة اللغة العربية الفصحى، لغة الدين والتراث والحضارة، وَمَضَى قوم ممن بهرتهم نظرات الدرس اللُّغوي الحديث القادم منَ الأوربيينَ، وأولئكَ المُتَأثِّرون بما تحمله الحَدَاثة الغربيَّة من آراء وأفكار تَتَعَلَّق بأدب القوم ولغتهم، يمارسونَ على اللغة العربيَّة الفصحى ضروبًا منَ الانتهاك والتدمير لا تكاد تنتهي
بَدَت في شكل إماعة لمفهوم اللغة بفقدها مدلولها، كأن يقول أحد رموزهم - ضاربًا بقواعدها، وبالتَّرابط المنطقي بين أجزائها عرض الحائط: "اللغة العربية لغة انبثاق وتَفَجُّر، وليست لغة منطق أو ترابط سببي"، وبدا هذا الانتهاك حينًا آخر في التَّهوين من شأن القواعد والتَّجريء على الخَطَأ، وَعده لونًا منَ التَّجديد والحداثة، حتى قال أحدهم ساخرًا ممن يلتزمون الصواب في اللغة، ويحرصون على الدِّقة والسلامة في استعمالها: "تَتَصاعَد في السَّنوات الأخيرة حرارة النَّحو والإعراب لدى المتَحَدِّثين في الإذاعة والتلفزة، التي تقع تَحت التأثير المتزايد منَ اللغويين الخلَّص، فتعمق القطيعة بين الفصحى والعامية، وتبعد الجمهور عن فَهم اللُّغة".
[b] تشجيع العاميات
ولكن أخطر ما تمارسه اللغويَّات الحَديثة، والحَداثة المعاصرة الوَافدة اليوم من تآمر على الفصحى، هو تشجيع العاميات، وإذا كانت هذه دعوة قديمة فإن جديد الحداثة منها الترويج الحار لفكرة أنَّ كتابة الأدب بالفصحى تبعده عنِ الواقع، وأنَّ العامة لا تفهم الفصحى، وأن ازدواجيَّة اللغة - بين فُصحى وعاميَّة، مكتوبة ومَحكيَّة - يُحْدث إرباكًا في الفكر، ويَقِفُ بَرزخًا في وجه الإبداع الفني،
ثُم الزَّعم أنَّ العامّيَّة لغة حيويَّة متدفّقة، تصلح للأدب والفن، وهي لا تقلّ عن الفصحى طاقات وإمكانات إن لم تَتَفَوَّق عليها، وذهب بعضهم إلى حد القول: (إنَّ العامّيَّات هي اللغة الحديثة للشعب العربي).
¥