ملتقي اهل اللغه (صفحة 6001)

وهكذا ... هكذا كل شيء تأخذه العين أو يناله الفكر, إنما هو دعوى ملفقة وتقليد مستجلب وبلاء من البلاء. ولا نزال مقلدين حتى يستطيع الأحرار - وهم قلة مشردة ضائعة - أن يبسطوا سلطانهم على الحياة الاجتماعية كلها, ويردوا إلى الأحياء بعض القلق الروحي العنيف الذي يدفع الحي إلى الاستقلال بنفسه والاعتداد بشخصيته, والحرص على تجديد المواريث التي تلقاها من تاريخه, ويغامر في الحضارة الحديثة بروح المجدد لا بضعف المقلد, فعندئذ ينتزع من الحضارة الأسباب التي تنشأ بقوتها الحضارات, ولا يكون موقفه منها موقف المسكين الذليل المطرود من المائدة ... ينتظر وفي عينيه الجوع ليتقحم من فتاتها.

ـ[علي الحمداني]ــــــــ[29 - 04 - 2010, 08:34 م]ـ

وقال في مقاله الموسوم ب"الهجرة":

فالشاب حين يخرج إلى الحياة العقلية والفكرية تستهويه أسماء المفكرين من الكتاب والشعرءا والفلاسفة فتستهيمه وتذهب بهواه وعقله إلى الأخذ عنهم والإقتداء بهم والسير على مناهجهم, ولا يزال كذلك في تحصيل وجمع وتأثر واتباع حتى يتكون له قوام عقلي يجرئه على الاستقلال بفكره ورأيه ومذهبه. فالقدوة والأسوة هي مادة الشباب التي يتم بها تكوينه العقلي على امتداد الزمن وكثرة التحصيل وطول الدُرْبَة, فإذا كان ذلك كذلك فالكتاب والشعراء والفلاسفة وأصحاب الرأي وكل من يعرض نتاجه العقلي للشباب, ويكون عرضة الاقتداء والتأسي والتأثر - يحملون تبعة تكوين العقول الشابة التي ترث علومهم وأفكارهم ثم تستقل بها وبإنتاجها الخاص, وكذلك يكون هذا الإنتاج الخاص ضاربا بعرق ونسب إلى الأصل الأول الذي استمد منه واتبعه وتلقى عنه.

هذا ... , فتبعة الكتاب والأدباء أمانة قد تقلدوها وحملوها, ثم ارتزقوا منها أيضا وأكلوا بها وعاشوا في الدنيا الحاضرة بأسبابها, فهم على اثنتين: على أمانة قد فرض عليهم أن يؤدوها إلى من يخلفهم من الشباب الذي يتبعهم ويتأثر بآدابهم, وعلى شكر للمعونة التي يقدمها لهم الجيل الشاب الذي يبذل من ماله ليشتري منهم ما يكتبون وما يؤلفون وما يقدمون للتاريخ من آثارهم ليكسبوا به خلود الاسم وبقاء الذكر.

وشبابنا اليوم قد تهدمت عليه الآراء, وتقسمته المدنية الأوربية الطاغية, وهو لا يجد عصاما يعصمه من التدهور في كل هوة تنخسف بين يديه وهو مقبل عليها بشبابه ونشاطه واندفاعه وعنفوان قوته في الشوط الذي يجريه من أشواط حياته. والمدارس في بلادنا لا تكاد تعطيه من الرأي أو من الفن أو من الأدب ما يبل أدنى ظمأه إلى شيء من هذه الأشياء, وإذن فليس يجد أمامه إلا المجلات والصحف والكتب التي يقدمها له أصحاب الشهرة من كتابه الذين ترفع له أسماؤهم في كل خاطرة وعند كل نظرة. وهو لا ينى يستوعب منهم أساليبهم وأفكارهم وآراءهم وما يدعونه إليه من موائدهم.

فهل ينصف هؤلاء الكتاب هذا الشباب؟ أتراهم قد عرفوا قدر أنفسهم عند الشباب فعبأوا له قواهم احتفالا بشأنه وحرصا على مصيره الذي هو مصير الأمة ومصير مدنيتها؟ أنا لا أرى ذلك إلا في القليل ممن عرفهم الشباب وجعلهم نصب عينه, واتخذ أساليبهم فتنة يهوى إليها.

ـ[علي الحمداني]ــــــــ[30 - 04 - 2010, 08:36 م]ـ

وقال في مقاله "الرأي العام":

والإسلام في بنائه قائم على مصلحة الجماعة, وجعل المسلمين يدا على من سواهم, وأن يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضا. وهذه مصلحة مقدمة على كل المصالح الأخرى. وهي مقدمة على فروع الفقه الإسلامي, كما قدم الجهاد في سبيل الله على كل عمل من أعمال الإسلام.

والإسلام في أصله أيضا لا يعرف من نسميهم اليوم ((رجال الدين)) فإنما هم من المسلمين يعملون أول ما يعملون في حياطة الجماعة وإقامة كيانها الاجتماعي والسياسي بالعمل, كما يعمل فيه سائر الناس في وجوه العيش وضروب البناء الاجتماعي. وليس الانقطاع للجدل في الفقه والسنن والتوحيد عملا من أعمال الحياطة إلا أن يبنى على المسامحة والأخوة والرضا وترك اللجاج والمعاندة, وإلا فهو شر كبير يجب على المسلمين أن يحسموا أصله.

فإذا استقر البناء الاجتماعي للأمم الإسلامية على أصول الإيمان المبصر والتقوى الهادية, وتبرأت النفوس والقلوب من غوائل الضعف والذلة والخضوع, وقام على الأمم الإسلامية قرآنها يهديها, ويهذب شعوبها, ويرقق أفئدتها لدين الله, ويؤلف قلوبها على إعلاء كلمة التوحيد, ويجمعها على دستور الإسلام في التشريع الواضح الحازم القوي, ويجعل الاجتماع في كل بلد إسلامي اجتماعا بريئا من فتن الغواية ومحدثات الشر, ثم تكون للمسلمين حضارة من أصل دينها تضارع الحضارات التي تناوئ شعوبها وتستذلها, - إذا كان ذلك كله - فعندئذ يستطيع الحكم الإسلامي أن يرد ما يبقى من البدع التي غلبت على أهل الجهالة بالسلطان الحاكم لا بالكلام المفرق بين الناس وإذن فأجدر العملين برجال الإسلام من أصحاب الفقه والشريعة والتوحيد أن يعملوا على إنقاذ المجتمع الإسلامي من أسباب ضعفه بهدايته بأسباب القوة الأخلاقية والفكرية التي جعلت المسلمين في ثمانين عاما سادة حاكمين على الإمبراطورية التي جاهد الرومان في بنائها ثمانمائة عام ... وإلا فلن يكون بعد مائة عام محمل في حج ولا محراب في مسجد.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015