ـ[علي الحمداني]ــــــــ[27 - 04 - 2010, 08:53 م]ـ
هذا كلام شريف للأستاذ محمود شاكر أحببت لكم أن تقرؤوه. وهو مقتضب من مقاله الموسوم ب: أسواق النخاسة.
كتب العلامة محمود شاكر:
إن الشهرة والشهادة هما شيئان لا قيمة لهما في العلم والأدب, فبناء العلم على نجاح التجربة واستواء المنطق وإقرار العقل, وبناء الأدب على صدق الإحساس وحدة الإدراك وسمو العاطفة وقوة الحشد وبراعة العبارة والأداء. فإذا لم تكن الشهرة من هذا تستفيض وعنه تَشرع, فما غناؤهما على صاحبها إلا بعض الأباطيل التي تنفش في عقول الأمم الضعيفة والأجيال المستعبدة بالأوهام والتهاويل. والشهادة ما هي إلا إجازة الدولة لأحد من الناس أنه قد تحرر من طلب العلم والأدب على القيود التي تتقيد بها المدارس والجامعات في أنواع بعينها من الكلام, وأنه قد حصل في ورقة الامتحان ما فرض عليه تحصيله بالذاكرة, ثم ترفع الشهادة يدها عن معرفة ما وراء هذا التحصيل وما بعده وما يصير إليه من الإهمال أو النسيان أو الضعف أو الفساد. فحين يغادر أحدهم الجامعة حاملا شهادته مندمجا في زحمة الجماعة تفقد الشهادة سلطانها الحكومي - أو هكذا يجب أن يكون - ولا يبقى سلطان إلا للرجل وأين يقع هو من العلم أو الأدب أو الفن؟ وهل أصاب أو أخطأ؟ وهل أجاد أو أساء؟ وهكذا فهو لا ينظر إليه إلا مغسولا غفلا من ((مكياج)) الدبلوم والليسنس والماجستير والدكتوراه .. وما إليها, وإذن, فأولى ألا ينظر إليه عن شهادة قوم لم يكن سبيلهم إلى التحكم في أسواق العلم والأدب إلا الشهادات المستحدثة, والشهرة النابغة على حين فترة وضعف واختلاط وجهل كان في الأمة حين كان أقل العلم وأشف الأدب يرفعان صاحبهما درجات من التقدير والإجلال والكرامة.
ـ[علي الحمداني]ــــــــ[27 - 04 - 2010, 10:05 م]ـ
وقال في التقليد:
ومن بلاء الأمم الضعيفة بنفسها أن انبعاثها إلى التقليد - تقليد القوي - أشد من انبعاثها لتجديد تاريخها بأسباب القوة التي تدفع في أعصابها عنفوان الحياة. والضعف يجعل محاكاة القوي أصلا في كل أعماله. فلما فسدت قيادة أصحاب الرأي عند هذه الأمم الضعيفة, وكان لابد للمستيقظ من أن يعمل, كان عمل الأفراد متفرقين منسحبا على أصلين: ضعف أورثهم إياه ضياع كيان الدولة السياسي, وضعف كرثهم به تفرق القيادة وشتات الأغراض, فلا جرم أن يكون كل عمل موسوما بسمة من ضعف مظاهر بضعف صاحبه, ولا جرم أن يكون أعظم أعمالنا هو تقليد أعمال الناس على الهوى والجهل والدهشة المتصرفة بغير عقل.
هذا كل شيء تحت أعيننا وبأيدنا: بيوتنا, مدارسنا, أبناؤنا, رجالنا, نساؤنا, علمنا, أدبنا, فننا, أخلاقنا ... كل ذلك على الجملة والتفصيل قد وسم بميسم الضعف والتفرق وانعدام التشاكل بين أجزائه التي يتكون من مجموعها معنى الأمة, وكلها تقليد قد تفرقت في جمعه أهواء أصحابه من هنا وهنا. والتقليد بطبيعته لا يتناول من الأشياء إلا ظاهرها, فكل مآخذنا من أجل ذلك ليست إلا مظهرا.
هذه المرأة - وهي فن الحياة الذي يشتهي أبدا أن يبدع حتى في الأذى - ما تكاد تراها عندنا إلا دمية ملفقة من الحضارات وبدعها ... ثيابها, زينتها, جليها, تطريتها, شعرها, تطريف بنانها, مشيتها, منطقها .... كل ذلك أجنبي عنها متكلف منتزع من مظاهر غانيات باريس وعابثات هوليوود, ليس له من جنسها ولا أصلها شبه تنزع إليه, وأسمجه أنه ملفق لا يتشاكل تشاكل المصدر الذي اجتلب منه بالتقليد.
وهذا الكاتب وهذا الشاعر - وهما فن الحياة الذي يعمل أبدا في تجديد معانيها بالتأثير والبيان - لا تجد فيما يكتب أكثرهم إلا المعاني الميتة التي نقلت من مكانها بالاعتناف والقسر فوضعت في جو غير جوها فاختنقت فمات ما كان حيا من بيانها في الأصل الذي انتزعت منه.
¥