ملتقي اهل اللغه (صفحة 5950)

والحقيقة أن اللهجات المحلية كانت موجودة منذ الجاهلية وكانت لكل قبيلة لهجتها الخاصة، لكن العربية الفصيحة كانت أساس التعامل بين القبائل ولغة الخطاب والأدب. ونقيض هذا هو الحادث الآن، إذ ربما يكون انصهار الداخلي مع الخارجي فيما يُعرف بالعولمة خاصة مع عصر الاتصال التقني عبر الإنترنت والفضاء قد روج للهجاتٍ محلية عامية مثل الشامية والمصرية بأعمالهما الفنية التلفزيونية لتكون العامية هي لغة التخاطب والحوار ولتتجرع لغتنا الفصحى قدحًا آخر مُرًا لم يَسقِه التاريخ الماضي لها.

لم تقف وسائل المحاربة عند حد استخدام العامية، بل تخطت هذا باستخدام المناهج الأجنبية في المقرراتِ التعليمية العلمية لأغلب الجامعات المصرية بحجة أصالة العلوم للغرب والبقاء في مواكبةٍ للجديد فيها، مع العلم أن الغرب حينما نقل العلوم والمعرفة عن المسلمين في أوج ازدهار حضارتهم قام بترجمتها للغته ومن ثم أضاف لها، فلماذا لا ننتهج نهجه الآن؟!

ويقف الآن على رأس تلك الوسائل العدوانية ما اصطلح على تسميته لدى هؤلاء: الفرانكو آرب، وهي لهجة استخدمت النطق العربي المحلي لتطبعه بحروفٍ لاتينية في خطوةٍ فاسدة تسير لتفسد النبت قبل حصاده.

ولعل من أبلغ الدلالات على تجذر المأساة ما رأيناه في افتتاح بطولة كأس العالم لكرة القدم لمن هم دون التاسعة عشر والتي نظمتها مصر عام 2009, حيث خرج ثلاثة مسؤولين مصريين لإلقاء كلماتهم آذنين ببدء البطولة، فكانت الصاعقة بأن الوحيد الذي نطق جملةً عربيةً واحدةً صحيحة هو رئيس الجمهورية آنذاك.

فصدق شاعرنا إبراهيم المنذر حين قال:

وكانت اللغة الفصحى معزّزةً ** تختال عجبًا بأقطاب وأعلام

واليوم لا كان هذا اليوم لست أرى ** في الشرق إلا الفؤاد الشّاكي الدّامي

تراطن القوم والحدثان فرّقهم ** فأصبحوا بين أعرابٍ وأعجام

لماذا اللغة العربية الفصيحة؟

بالإضافة لكونها الوعاء الذي حَوى تاريخ أقطارنا العربية بفنونه وعلومه وآدابه وحفظه من الضياع, فهي حاملة كلام الله وكتابه الخاتم المقدَس (القرآن الكريم)، وبدون إتقان بعض ألفاظها لن تستقيم بعض شعائر دين الإسلام الخاتم، كما أن هناك الكثير من الكنائس العربية تستخدمها في شعائرها ككنائس الروم الأرثوذكس، الروم الكاثوليك والسريان.

تمثل الفصحى الكيان الذي نستطيع من خلاله كعرب أن نشد عود وحدتنا في كيانٍ اقتصادي له من مزايا الجغرافيا واللغة ما يتفوق على كياناتٍ أخرى شاهقة البنيان مثل الاتحاد الأوروبي الذي تحكمه عدة ألسنة لغوية.

تنفرد اللغة العربية الفصحى بخصائص فنية لها من الجلال ما يضعها في مقدمة اللغات قاطبة ذوقًا وقيمة، وعلى سبيل المثال لا الحصر أضع منها:

أ- تمتلك اللغة العربية أوسع مدرج صوتي عرفته اللغات، حيث تتوزع مخارج الحروف بين الشفتين إلى أقصى الحلق.

ب- كثرة تعبيراتها، وسعة تراكيبها، وغزارة مفرداتها, إذ حسبما تشير المصادر ومنها ما قاله اللغوي والأديب المصري فاروق شوشه*4: "الخليل بن أحمد الفراهيدي افترض متوالية رياضية: عندنا ثمانية وعشرون حرفًا, فإذا كان كل حرف يتعامل مع بقية الحروف, فيُقدّر أن اللغة العربية في جذورها لابد أن لا تقل عن مئةٍ وعشرين مليونًا من الكلمات."، في حين أن اللغة الإنجليزية رغم اتساع نطاقها لم تصل مصطلحاتها بعد للمليون كلمة كما تشير مؤسسة «ذي غلوبال لانغويدج مونيتور*5» اللغوية الاستشارية، والتي تتخذ من مدينة سان دييغو بولاية كاليفورنيا الأميركية مقرًا لها.

ت- وبإمكانكم الاستزادة عن خصائص ومزايا اللغة العربية الفصحى بمطالعة البحث المنشور*6 تحت عنوان: "اللغة العربية ومكانتها بين اللغات" للأستاذ الدكتور فرحان السليم.

وتحضرني كلمات الأستاذ أحمد حسن الزيات*7: "إذا سمعتَ أحدًا يتكلمُ غير لغته من غير ضرورة، أو يَلْهَجُ غير لهجته مِن غير مناسبة، فلا يخامرْك شك في أنه كذلك في خليقته وعقيدته، ونمط تفكيره، وأسلوب عمله."

ولكل ما سُردَ من أهمية ودواعٍ للحفاظ على لغتنا العربية الفصحى نطرق باب المواجهة بكل قوة ونقول: علينا أن نفيق وننتبه للخطر المحدق بنا وبهُوية الوطن من كل جانب، وسأعرض سُبل المواجهة كما يَتسنى لي رؤيتها:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015